بتاريخ 18-3-2014، أصدر قاضي الأمور المستعجلة في جديدة المتن رالف كركبي حكما لافتا منع بموجبه شخصا من نشر صور زوجته تحت طائلة تسديد غرامة تكديرية قدرها 20 ألف دولار أميركي عن كل صورة تنشر لها أو تسرب لأي جهة كانت وبأي وسيلة كانت. وفي تفاصيل القضية أن الزوج المتأهل من المستدعية منذ ستة عشر عاما كان قد التقط لها صورا حميمية بموافقتها على اعتبار أنه زوجها، وأنه بعد نشوء نزاعات أخيرا بينهما، هدد الزوج بأنه سينشر الصور بهدف تشويه سمعة زوجته واتهامها بالزنى، ليتمكن من فسخ عقد الزواج معها على مسؤوليتها. وقد توجهت المستدعية الى قضاء الأمور المستعجلة في جديدة المتن لمنعه من القيام بذلك، بموجب أمر على عريضة من دون خصومة، وهذا ما استجاب القاضي له.
وقد تضمن هذا القرار حيثيات بالغة الأهمية، على صعيد مفهوم العنف ضد المرأة، وعلى صعيد وظيفة القاضي في اتخاذ تدابير لحمايتها ضد مختلف أشكاله، ولا سيما في ظل تقاعس المشرع عن القيام بذلك.
فهو أقر للمرة الأولى بحق المرأة بالحماية ازاء العنف المعنوي، الى جانب حقها بالحماية ازاء العنف الجسدي. فـ«العنف ضد المرأة لا يقتصر على العنف الجسدي الذي يمكن أن تتعرض له المرأة من قبل شريكها أو أي رجل آخر، بل يشمل أيضا العنف المعنوي الصادر عن الرجل بتصرف معين يطاول من خلاله كرامتها ومكانتها الاجتماعية والعائلية والمهنية»، بل إن القرار ذهب الى حد القول إن من شأن العنف المعنوي أن يلحق بالمرأة أضرارا أخطر من العنف الجسدي، ولا سيما عندما يشوه صورتها ويهدد مستقبلها كما هي الحالة في موضوع القضية التي يتناولها. فنشر صور منافية للحشمة «تمثل عنفا نفسيا لها (للمرأة) يهدد كرامتها ومكانتها الاجتماعية والعائلية». ومن هذه الجهة، جاء القرار، من خلال الحالة العملية التي تناولها، بمثابة انتقاد جد بليغ لمشروع قانون الحماية من العنف، كما أحالته اللجان المشتركة على الهيئة العامة للمجلس النيابي في تموز 2013. وكان المشروع قد أشار صراحة في أسبابه الموجبة الى استبعاد العنف المعنوي من تعريف العنف المشمول فيه، بعدما حصر مجال تطبيقه في حالات محددة دون ترك مجال للتوسع أو الاجتهاد، كما أسهبنا في تبيانه في مكان آخر. وبذلك، أعطى القرار الناشطين في قضايا العنف ضد المرأة زخما جديدا للمطالبة باعادة فتح النقاش في الهيئة العامة للمجلس في اتجاه اعادة تعريف العنف، الذي سينص عليه القانون المزمع اقراره، بحيث يشمل مجددا العنف المعنوي، بما فيه من اكراه النساء على الزواج أو ممارسة الدعارة أو تعرض للكرامة.. الخ.
أما الميزة الثانية للقرار، وهي لا تقل أهمية عن الأولى، فقد تمثلت في تخصيص حيثية كاملة لاعلان دور القضاء والاجتهاد في ظل غياب النصوص القانونية الحمائية. فبعدما ذكر القرار بـ«أن المشرع اللبناني لم يتوصل لغاية تاريخه الى سن قانون خاص بحماية المرأة ضد العنف»، أعلن أنه «هنا يأتي دور الاجتهاد – وهو مصدر من مصادر القانون ـــ ليسد الفراغ التشريعي في أي موضوع كان، وتحديدا في موضوع العنف ضد المرأة، فيخلق لها الحماية المعنوية والجسدية المناسبة الى حين صدور قانون بهذا الشأن». ويلحظ أن القاضي عمد الى التسطير تحت هذه العبارة الأخيرة، فضلا عن كتابتها بالخط الأسود العريض BOLD في اشارة واضحة الى أنه في صدد اعلان موقف أساسي بخصوص تصوره لطبيعة وظيفته القضائية. وبالطبع، هذا الموقف يمثل في عمقه من جهة التزاما من قبل القاضي بمواصلة الاجتهاد في هذا الاتجاه، وفي الوقت نفسه دعوة الى زملائه القضاة لمجاراته فيه، توصلا الى تكريس دور القضاء في حماية المرأة وسائر الفئات الاجتماعية المغبونة أو المعرضة للخطر كلما تلكأ أو تقاعس المشرع عن القيام بذلك. ومن نافل القول إن من شأن موقف مماثل وما قد ينشأ عنه من قرارات، أن يقدم الاثبات تلو الآخر على امكان احراز خطوات مهمة من خلال القضاء في قضايا مماثلة، وأن يعزز تاليا الوصل بين الفئات الاجتماعية المختلفة والقضاء، بحيث تصبح هذه الفئات أكثر استعدادا وتهيؤا وربما حماسة للجوء اليه وعرض قضاياها ومناقشتها على حلبته. وأهم ما في هذه الاثباتات هو أنها تقدم في فترة يبدو فيها المشرع كأنه يقدم إلى هذه الفئات اثباتات معاكسة تماما، اثباتات تؤشر يوما بعد يوم إلى عجزه عن تكوين ارادة عامة للتجاوب مع همومها وقضاياها على نحو مناسب. وليس أدل على ذلك مما شهده مشروع قانون حماية المرأة من العنف الأسري من تجاذبات ومماحكات أدت عمليا الى تجريده من جوانب أساسية عدة، كما يمكن الاشارة الى مثل آخر هو قضية المفقودين والمخفيين قسرا، وذلك من خلال مقارنة قرار مجلس شورى الدولة الصادر في 4/3/2014 الذي انتهى الى تكريس حق المعرفة لذويهم على نحو بين وواضح، بإعراض المجلس النيابي عن القيام بأي خطوة لتكريس هذا الحق.
وختاما، بقي أن نذكر أن هذا القرار يأتي تبعا لقرارين سابقين، بادر الى اتخاذهما القضاء المستعجل في جديدة المتن (كركبي وأنطوان طعمة) في سياق حماية امرأة وابنتها ازاء العنف الجسدي، الذي كان يمارسه زوجها السابق عليهما. وقد انتهى القراران اللذان وافقت عليهما محكمة التمييز (أي أعلى مرجع قضائي) الى تكريس مبدأ قانوني جديد مفاده «سلامة الانسان فوق كل اعتبار»، وهو مبدأ يفتح بداهة بابا واسعا لحماية النساء من العنف.
نُشر في المفكرة القانونية www.legal-agenda.com