مع انتشار وباء «كوفيد - 19» عالمياً وازدياد عدد المصابين في لبنان، يرزح الأهل في سبيل تعليم أطفالهم بين مطرقة التعليم المدرسي وسندان الوباء الذي يفرض تعلّماً عن بعد ويُلقي بعاتقه على الأهل رسوماً تعليمية باهظة لا تساوي خدماتها حجم مدفوعاتها، وخصوصاً في المدارس الخاصة التي تضمّ أكثرية التلامذة. وحيث إن المدرسة ليست وظيفتها - بعد إحضار الأولاد في الأسبوع الأول - سوى تسجيل الدروس وإرسالها، يكون على كاهل الأهل تدريس أولادهم بأنفسهم ومواكبتهم في كل تفاصيل الدراسة؛ من شرح الدروس والإجابة عن أسئلتهم وغير ذلك، طبعاً مع دفع أقساط لا حاجة فعلية إليها. فلماذا لا نستغني عن المدرسة ويكتفي الأهل بتعليم أطفالهم في المنزل ضمن مناهج محدّدة ووفق تقييم رسمي تُقره الدولة، كما يحصل في كثير من الدول؟بحسب التجارب والدراسات، يستطيع الأهل المتعلّمون أو الذين يُحضرون أساتذة، وخصوصاً في السنوات الأولى للتعليم - الابتدائي وحتى المتوسط - تعليم أطفالهم بأنفسهم بشكل فعّال ونشط أكثر بكثير من الطرق الحالية المعتمدة، وبكلفة زهيدة.
ورغم كل ما يمكن أن تؤمّنه المدرسة من بيئة مساعدة في التعليم، إلا أن العالم يشهد توجّهاً متزايداً نحو التعليم المنزلي حتى منذ ما قبل جائحة كورونا. ويقدّر عدد الطّلاب الذين تلقوا تعليماً منزلياً خلال العقدين الأخيرين بين 1.7 مليون و 2.3 مليون في الولايات المتحدة فقط، ويُقدّر النمو السنوي لطلاب التعليم المنزلي بين 7% و15%.
وقد عكس هذا القبول لفكرة التعليم المنزلي استطلاع أجرته مؤسسة غالوب الإحصائية رداً على سؤال: «هل ينبغي أن يمتلك الآباء الحق القانوني في تعليم أبنائهم في المنزل؟»، إذ أجاب أكثر من نصف المشاركين (53%) بـ «نعم» في مقابل 39% قالوا «لا».
وهذا النمط التعليمي كان سائداً في القرون الماضية وكان يمارس من خلال الأهل أو الكنيسة، قبل القرن السادس عشر، وقد أصبح تدريجياً على عاتق الحكومة بعد ما أضحى محو الأمية قضية أساسية. ومنذ ذلك الحين ارتبط مفهوم التعلّم بحيز المدرسة كمكان جغرافي لتطبيق التعلم، وهي تُعد المكان الأول حالياً بلا منازع الذي يحصل فيه التعليم من المعلمين، إلا أن كثيراً من دول العالم تراجعت عن فكرة أن المدرسة هي المؤسسة التعليمية الوحيدة المعترف بها، لمصلحة أنماط تعليمية أخرى. وقد باتت مثل هذه الأنماط حقاً مكفولاً دولياً، وخاض العديد من العائلات والمؤسسات غير الحكومية مواجهات قضائية مع حكوماتهم، في أميركا وبريطانيا وألمانيا، مستفيدين من النصوص والاتفاقات والمعاهدات الإنسانية نفسها التي تكفل لهم هذا الحق، إذ تنص المادة 26، الجزء 3، من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 على أن «للآباء الحق الأول في اختيار نوع التعليم الذي يجب أن يحصلوا عليه لأطفالهم». وتنص المادة 2 من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية لعام 1950 على أنه «في ممارسة أي وظائف تؤديها في ما يتعلق بالتعليم والتدريس ، تحترم الدولة حق الوالدين في ضمان هذا التعليم والتدريس بما يتفق مع معتقداتهما الدينية والفلسفية».
وينص الاتفاق الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المادة 13 على أن «الدول الأطراف في هذا العهد تتعهّد باحترام حرية الوالدين... اختيار مدارس أبنائهم، بخلاف تلك التي أنشأتها السلطات العامة»، ولكن بشكلٍ «يتوافق مع الحد الأدنى من المعايير التعليمية التي قد تضعها أو توافق عليها الدولة». ويؤكد ذلك نص الاتفاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في الفقرة 4 من المادة 18 على أن «تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد باحترام حرية الوالدين والأوصياء القانونيين، عند الاقتضاء، مع ضمان التعليم الديني والأخلاقي لأطفالهم بما يتفق مع قناعاتهم».
هذه التجربة لم تبق محصورة ببعض البلدان بل انتشرت في العالم بفعل نجاحها منذ عام 1999 في دول عدة مثل النمسا وفنلندا وجورجيا وولاية أوكلاهوما وإيرلندا وإيطاليا وبيرو والفيليبين وبولندا والبرتغال وإسبانيا وغيرها من الدول التي باتت تعترف دستورياً بحق الأسرة في التعليم المنزلي وتسمح به، سواء بشكل صريح أم ضمني، وذلك باعتباره حقاً للأسرة في تحديد كيفية تعليم أطفالها.
عربياً لا توجد أي دراسات رسمية تتناول فعّالية التعليم المنزلي وكيف يمكن الاستفادة منه. ومن حيث تشريعه، فإن غالبية البلدان العربية إذا لم نقل معظمها لم تشرع التعليم المنزلي بعد، بل لا تزال تتجاهله، وهي وإن شرّعته كما في الإمارات العربية المتحدة فإنها وضعت شروطاً دقيقة عليه.
أما في لبنان فلا وجود لأي نص تشريعي حول التعليم في المنزل أو homeschooling، ومن يمارسه لا يمكنه أن يحصل على شهادة رسمية معترف بها، ولا توجد حتى استثناءات في هذا النوع من التعليم لذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم. علماً بأن بعض الأطفال الذين تعلّموا منزلياً في الفترة الماضية حصلوا على مراتب أولى ضمن الامتحانات الرسمية.
هذا الواقع يحتّم تنظيم مثل هذه الأنماط التعليمية المستجدّة عالمياً، والتي يمكن أن تكون الحل في تعليم أمثل وخصوصاً في الظروف الراهنة.

* باحث في المجال التربوي والإداري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا