كان للأول من أيار، يوم العمال العالمي، هذه السنة طعماً خاصاً في لبنان، إذ شهد في الفترة نفسها تحركات عمالية ومطلبية، من حراك هيئة التنسيق النقابية إلى مسيرة العمال المهاجرين، وبالأخص عاملات المنازل، في يوم الرابع من أيار، اللواتي يطالبن بالحماية القانونية والمساواة في العمل، ويؤكدن أنهن عاملات ولسن خادمات أو مساعدات. تطرح هذه التحركات مسائل أساسية أمام الحركة النقابية والعمالية في لبنان، التي عليها أن تشتقّ من معاني هذا اليوم ما تشاء وما يوافق شكلها، تحركها ومطالبها.
فيوم الأول من أيار وما يعنيه، والشعارات التي تستحضر معه كعبارة كارل ماركس الشهيرة «يا عمال العالم اتحدوا»، تدفعنا إلى التساؤل عن تجليات وترجمة ذلك في الواقع اللبناني. الأول من أيار لم يسمَّ يوم العمال العالمي من أجل أن يكون مناسبة للتظاهرات الفولكلورية الاحتفالية بالعمال وأهميتهم، بل أتى نتيجة استشهاد عمال في شيكاغو خلال تظاهراتهم في أواخر القرن التاسع عشر، مطالبين بـ 8 ساعات عمل. وعلى أثر ذلك تبنته الأممية الثانية كفعل تضامني، بل أكثر، لاعتبار أن نضال عمال شيكاغو هو نضال العمال نفسه في كل العالم، واعتبرت الأول من أيار اليوم الذي يناضل فيه عمال العالم من خلال تنظيماتهم ونقاباتهم من أجل 8 ساعات عمل. وهنا تبرز الرمزية الأهم لهذا اليوم، ألا وهو التضامن العمالي في النضال من أجل الحقوق والمصالح، التي وإن تباينت في القطاعات المختلفة، تصبّ في المكان عينه، أي في أن يكون للعمال وزن سياسي - اجتماعي يستطيعون عبره الدفاع عن مصالحهم وفرض أنفسهم طرفاً أساسياً في تحديد السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
التنظيمات
النقابية تمارس التمييز بين فئات العمال
أما في لبنان، وبالرغم من تزايد الحراكات المطلبية العمالية، فيتبين لنا أن مسألة التضامن بين العمال والتقاطع بين النضالات العمالية شبه غائبة. فنرى هيئة التنسيق النقابية معزولة في نضالها المستمرّ منذ أكثر من سنتين، وهي أيضاً تنأى بنفسها عن النضالات العمالية الأخرى بحجة تركيزها على السلسلة وحرصها على «وحدتها» حول هذا المطلب. وبمكان آخر، تختار الحركة النقابية، إن أمكن تسميتها حركة، أن لا تتطرق إلى مسألة العمال المهاجرين بحجة حماية العامل الوطني من منافسة العامل الأجنبي التي تلومه على ازدياد البطالة وهشاشة العمال وتدهور أجورهم، بدل من تنظيمهم والدفاع عن حقوقهم وتحصين العمال من أساليب أصحاب العمل المتمثلة باستغلال العمال المهاجرين لخفض الأجور والأكلاف. هذه عيّنة من أمثلة كثيرة تظهر غياب أي نوع من التضامن بين العمال في لبنان، باستثناء البيانات الداعمة التي لا يمكن صرفها في النضالات العمالية. ويترجم ذلك بتحركات تتباين بالحجم لكنها تبقى ضعيفة ووحيدة بمواجهة تكتل أصحاب العمل وأصحاب الريوع الذين يواجهون العمال مجتمعين. فكتل المصالح نفسها هي التي واجهت عمال المصارف، وحاربت تصحيح الأجور في القطاع الخاص، هي التي تصرّ على عدم إمرار السلسلة وعلى عدم إدخال أي إصلاح ذات معنى في النظام الاقتصادي اللبناني.
إلى جانب مسألة التضامن العمالي، تتصاعد في الأول من أيار حمى الوحدة العمالية باستحضار عبارة كارل ماركس الشهيرة. فالحركة النقابية في لبنان لم تفهم معنى الوحدة العمالية إلا بأسر العمال في تنظيمات وقوالب نقابية غير منسجمة، ولكنها متراصة ضد أي محاولة للعمال لكسر هذا القيد الوحدوي بتنظيم أنفسهم. فالهوس بهذا النوع من الوحدة يترافق مع كيدية تشريعات العمل اللبنانية التي تحرم فئات واسعة من العمال تنظيمَ أنفسهم كعمال القطاع العام والعمال الزراعيين وعمال المنازل، وتقيّد حق عمال القطاع الخاص عبر التراخيص الممنوحة من وزير العمل. فاختُزلت الوحدة العمالية بهياكل نقابية إما مشلولة تريد الحفاظ على حقها غير المكتسب بتمثيل العمال عبر لجمهم عن تنظيم أنفسهم والتحرك بحرية وديموقراطية واستقلالية، أو تنظيمات لا تستطيع التحرّك إلا على مطالب محدودة جدّاً نظراً إلى عدم انسجام القوى التي تشكلها، فتأسر نفسها في هذه المحدودية غير قادرة على المبادرة حفاظاً على وحدتها التنظيمية. وبهذا المنطق، أصبح شعار «يا عمال العالم اتحدوا» قيداً إضافياً على العمال، فصارت وحدة الهيكل (بمعناه الحرفي والديني)، لا وحدة النضال والقضية والفعل التحرري الذي يشكل قوة دفع لنضال العمال، بمثابة قوة كبح وأداة للسيطرة على العمال. فمن اللافت أن تتغنى قيادات التنظيمات النقابية بالوحدة، وهي ما انفكت تمارس التمييز بين العمال، بالحد الأدنى لفظياً، ففي كل الخطابات والبيانات تذيّل كلمة «عمّال» بالمستخدمين، الموظفين، الأساتذة، المتعاقدين، المياومين، وإلخ. وكأنهم فئات مختلفة. كأن العامل هو غير المستخدم وغير الموظف وغير الأستاذ، وكأن العامل لم يعد يعرّف على أساس موقعه في نظام الإنتاج، بل بطبيعة عقده ومكانته الاجتماعية والقانون الذي ينظم عمله. فكيف للعمال أن يتحدوا، والحركة النقابية تصرّ على تفريقهم بتسميات مختلفة تدلّ على التمييز في المكانة والموقع في النظام ـ الاقتصادي الاجتماعي القائم؟