قبل أيّام، تحديداً في 9 تشرين الأوّل الجاري، احتُفل باليوم العالمي لـ«الرعاية التلطيفية»، بحملات أضاءت على أهمية نشر الوعي النفسي والصحي بأشكاله كافة. ورغم الوعي المتنامي عالمياً على أهمّيتها، لا تزال «العناية التلطيفية» مهملة في لبنان، ويقتصر تقديمها بشكل خجول من بعض الجمعيات مجاناً وبكلفة باهظة وغير مغطاة في بعض المستشفيات، فيما لم تحظ قرارات وزارة الصحة بالخصوص بتطبيق جدي. ورغم التقدّم قانونياً، يضيء واقع الرعاية على جملة احتياجات صحية تراجع الاهتمام بها بسبب الأزمة الاقتصادية.

في أيار 2019، أُنشئت لجنة وطنية لـ«العناية التلطيفية» بإشراف وزارة الصحة وصدر قرار بتغطية سقف معيّن للاستشفاء على نفقة الوزارة. سبق في 2013 إقرار الوزارة العناية كاختصاص طبي معترف به رسمياً. ما يعني أن لبنان سبق أوّل قرار عالمي بشأن الرعاية، في عام 2014، صدر عن جمعية الصحة العالمية ودعا منظمة الصحة العالمية إلى تحسين إتاحة خدمات الرعاية باعتبارها عنصراً أساسياً من عناصر النظم الصحية مع التركيز على الرعاية الصحية الأولية والرعاية المجتمعية/المنزلية.

لكن عملياً ماذا كانت النتيجة؟ «اللجنة لم تجتمع منذ سنوات. رئيسها الدكتور وليد عمّار تقاعد من الوزارة»، تقول لـ«الأخبار» عضو اللجنة ومؤسسة ونائبة رئيس جمعية «بلسم» المتخصصة بالرعاية، الدكتورة هبة عثمان، وتضيف: «ليست لديها أرقام تشير إلى تطور الرعاية التلطيفية لأن من الصعب تحديد عدد الأشخاص المستفيدين من العناية ولم تقم في لبنان أي دراسات بعد». لكن عثمان تشير إلى وجود تقديرات بإمكان أن يستفيد 31 ألف مريض في لبنان سنوياً.
إضافة إلى مصير اللجنة، فإن عوائق أخرى تحول دون تطوّر الرعاية في لبنان: نقص الخبرات والمتخصصين، عدم اعتراف الضمان وشركات التأمين بقرارات الوزارة، غياب الوعي والاهتمام باعتبار أن الاعتراف وتشكيل اللجنة لم يبدّلا عملياً من اعتبارها ترفاً بدل الاعتراف بها «صراحةً بموجب حق الإنسان في التمتع بالصحة» كما تؤكد منظمة الصحة العالمية.

في 2019، أصدرت وزارة الصحة قرارات تنقل الاعتراف العمومي إلى حيّز التنفيذ، أهمّها إقرار آلية وتعرفة للعناية التلطيفية. إلا أن مؤسسة الضمان لم تعترف بذلك كما يؤكد الوزير السابق جميل جبق الذي أصدر القرار، مشيراً إلى أن المريض بقي يعتمد على تغطية الوزارة وهو ما توقّف لاحقاً أيضاً بسبب الأزمة الاقتصادية. تتغاضى شركات التأمين والضمان الاجتماعي عن تغطية التكاليف حتى في المستشفى. بحسب عثمان، فإنّه و«بعد اعتراف الوزارة بالرعاية، كانت الخطوة الثانية (المنتظرة) هي شمولها بالضمان الاجتماعي». وفي الحالات التي يتكفّل فيها الضمان يكون قد جرى تمويه السبب! يشدد جبق على أن ما تعترف به الوزارة «ويتم إقراره على الضمان الاجتماعي الاعتراف به، بل والمنظمات الصحية والهيئات... لكن الضمان لا يقدر أن يغطي الحالات الصغيرة والرعاية لا تُعتبر من أولوياته». ويوضح أن الأوضاع بعد 17 تشرين واستقالة حكومة سعد الحريري وارتفاع سعر صرف العملة أدت إلى عدم اعتماد ما أقر من تغطية على نفقة الوزارة، علماً أنه قبل الأزمة كانت الرعاية من بين أمور أخرى يطالها مقترح قانون لم ير النور يلزم الضمان بالالتزام بما تعترف به الوزارة.

تكلّف العناية «بحدود مليون ليرة لبنانية يومياً»، وفق ما يفيد به رئيس قسم الأمراض النفسية في مستشفى دار العجزة الإسلامية الطبيب جمال حافظ، ولكن «كانت سابقاً تكلّف 200 ألف ليرة، بسبب فرق سعر صرف الدولار». يتقاضى الفريق «حسب ما يحتاج له المريض من العناية. وتزيد الفاتورة على المريض المتواجد في المستشفى وهي تُعتبر خارج العلاج الأساسي».
تشير تقديرات إلى إمكان أن يستفيد 31 ألف مريض في لبنان سنوياً



الجدير ذكره أن منظمة الصحة العالمية تدرج أدوية الرعاية «في قائمة الأدوية الأساسية وقائمة أدوية الأطفال الأساسية»، وتشير إلى أن الرعاية تحظى «بالاعتراف في التفويضات والاستراتيجيات العالمية الرئيسية المتعلقة بالتغطية الصحية الشاملة، والأمراض غير السارية، والخدمات الصحية المتكاملة التي محورها الإنسان». وفي 2019، أصدرت المنظمة مبادئ توجيهية بشأن استخدام الأدوية والعلاج الإشعاعي في التدبير العلاجي للآلام الناجمة عن السرطان لدى البالغين والمراهقين.

ما هي «الرعاية التلطيفية» وما أهميتها؟

بحسب منظمة الصحة العالمية، فإنها «نهج يحسّن نوعية حياة المرضى (البالغين والأطفال) وأُسرهم ممن يواجهون مشاكل مرتبطة بأمراض تهدّد حياتهم. وهي تتيح توقّي المعاناة وتخفيفها بفضل التعرّف المبكر إلى الألم وغيره من المشاكل، سواء كانت بدنية أو نفسية اجتماعية أو روحية، وتقييمها وعلاجها على نحو سليم».

وتنطوي معالجة المعاناة، وفق شرح المنظمة، على «مراعاة مسائل تتجاوز مجرّد الأعراض الجسدية. وتستخدم نهج العمل الجماعي في دعم المرضى والقائمين على رعايتهم. ويشمل ذلك تلبية الاحتياجات العملية وتقديم المشورة في حالة الفجيعة. وتوفّر نظام دعم لمساعدة المرضى على العيش بأكبر قدر ممكن من النشاط حتى وفاتهم». يتم توفيرها من قبل فريق من الأطباء والممرضين المدرّبين وغيرهم من المتخصصين (عامل اجتماعي، أخصائي نفسي، أخصائي تغذية، صيدلي،...) الذين يعملون مع أطباء المريض الآخرين.

بحسب حافظ، فإنّ «الطب التلطيفي هو رعاية طبية تستهدف الأشخاص الذين يعانون من أمراض غير قابلة للشفاء، أو من تطول فترة علاجهم كالسرطان، الشلل، والغيبوبة... وفي كل مستشفى يقوم فريق كامل بالاهتمام بأصحاب تلك الأمراض حتى في العناية الفائقة». يشدّد حافظ على «إنسانية» الرعاية: «من غير الإنساني أن لا يكون هناك من يهتم بالمريض ويتابع حالته وكأنه تُرك للموت». وينبّه إلى أن «العناية الملطفة قسم آخر؛ للحالات الميؤوس منها، وهو تلطيف لمعاناة المريض ومثالها المريض القابع في الغيبوبة أو المتوفى دماغيّاً».
لا تنوب الرعاية عن أي نوع من العلاج الطبّي، وليست بديلاً من العلاج الكيميائي لمرضى السرطان كما يُشاع عند البعض: «العناية التلطيفية هي لمعالجة الأعراض التي تنتج من المرض الأساسي وليست البديل من أي علاج طبي».

في ظل عدم توافر الرعاية، أو ارتفاع كلفتها، تنشط جمعيتان في لبنان، «بلسم» و«سند»، في تقديم الرعاية مجاناً لمئات المرضى وعائلاتهم - غالبيتهم مرضى سرطان - من توفير المعدات والأدوية في المنزل إلى متابعة العائلة في الحداد والاجتماع والتواصل الدائم.
تواجه الجمعيتان نقص الوعي الكافي لأهمية الرعاية. وهو ما تحذّر منه منظمة الصحة العالمية، التي تشير إلى عوائق أهمّها نقص الوعي بين صانعي السياسات والمهنيين الصحيين حول ماهية الرعاية والفوائد التي يمكن أن تقدّمها للمرضى والأنظمة الصحية. وكذلك الحواجز الثقافية والاجتماعية، مثل المعتقدات حول الموت، والمفاهيم الخاطئة حول الرعاية، مثل أنها مخصصة فقط لمرضى السرطان، أو للأسابيع الأخيرة من الحياة، أو أن تحسين الوصول إلى المسكنات الأفيونية سيؤدّي إلى زيادة تعاطي المخدرات.



أرقام

تظهر الإحصاءات تفاوتاً كبيراً في توافر العقاقير المخدرة للرعاية التلطيفية واستهلاكها بين البلدان عالية الدخل والأخرى متوسطة أو منخفضة الدخل.
وفق إحصاءات منظمة الصحّة العالمية، يحتاج نحو 40 مليون شخص إلى الرعاية، 78% منهم في بلدان متوسطة الدخل. يتلقى الرعاية حالياً 14% فقط من الأشخاص الذين يحتاجون إليها. يعاني غالبية المحتاجين من أمراض مزمنة: القلب والأوعية الدموية 38.5%، السرطان 34%، أمراض الجهاز التنفسي المزمنة 10.3%، الإيدز 5.7%، السكري 4.6%.
يعيش 98٪ من الأطفال الذين يحتاجون إلى الرعاية التلطيفية في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، نصفهم في أفريقيا. تمويل الرعاية متاح في 68% من البلدان. وفي 40% فقط من البلدان تصل الخدمات إلى ما لا يقل عن نصف المحتاجين.



تاريخ الرعاية

أسّست الطبيبة البريطانية دام سيسيلي سوندرز، حركة المسنين الحديثة التي أدّت إلى ظهور الرعاية التلطيفية. عام 1948، وقعت في حب مريض بولندي كان يحتضر بسبب السرطان. وترك لها 500 جنيه استرليني لبدء مستشفى لتخفيف المعاناة الجسدية والعاطفية لأصحاب الأمراض المزمنة. في عام 1967، افتتحت سوندرز دار «سانت كريستوفر» في سيدنهام في جنوب شرقي لندن. بنت سوندرز فلسفة تأكيد الحياة حول الاعتقاد بأن الموت «طبيعي مثل الولادة»، وأن الموت يجب أن يكون خالياً من المعاناة والألم. تم الاعتراف بتخصص الطب التلطيفي للمرّة الأولى في المملكة المتحدة عام 1987 وهي لحظة رئيسية في التحوّل الأوسع نحو مفهوم الرعاية التلطيفية.