بتاريخ 31/5/2014، صدر أول القرارات القضائية على أساس قانون حماية المرأة وسائر أفراد الأسرة إزاء العنف الأسري. وعند قراءة حيثيات هذا القرار، سرعان ما نتبيّن أن قاضي الأمور المستعجلة في بيروت (جاد معلوف) لم يكتف بتطبيق أحكام القانون، بل مارس فضلاً عن ذلك دوراً ريادياً أدى الى استكمال أحكامه والى تصحيح أبرز الشوائب الواردة فيه، وفي مقدمها تعريف العنف الذي يشمله القانون.
فهذا العنف لا يقتصر على حالات العنف التي خصها القانون بالذكر في مادته الثانية (وهي الحالات التي تتناولها إحدى الجرائم المنصوص عليها فيه) بل يشمل حسبما جاء في القرار، تبعاً لتفسير هذه المادة، حالات أخرى لم يذكر القانون أياً منها، أهمها حالات العنف المعنوي، ككيل الشتائم والتحقير والاستيلاء على الأوراق الثبوتية والهاتف الخلوي ومنع الخروج من المنزل.. إلخ.
وكنت أثرت إشكالية تعريف العنف الذي يشمله القانون، وذلك في مقالين يشيران اليها في عنوانيهما: الأول، «مشروع قانون لحماية الأسرة يعيد تعريف العنف: فرض التقاليد عنوة ليس عنفاً، العنف في الخروج عنها»، والثاني، «حماية قانونية إزاء العنف الأسري، ولكن عن أي عنف نتحدث؟». وقد بيّنت في هذين المقالين كيف أن المشرع أدخل تعديلاً جوهرياً على مشروع القانون الذي أحاله عليه مجلس الوزراء. فبعدما شمل هذا المفهوم: «أي فعل عنيف.. قد يترتب عليه أذى أو معاناة..»،انتهى المشرع الى اعتماد مفهوم ضيق قوامه حصر حالات العنف بالأفعال التي تشكل إحدى الجرائم التي عددها القانون. وقد استبعدت من خلال ذلك جميع حالات العنف الأخرى، وفي مقدمها العنف المعنوي، بما يشمله من أفعال مؤذية يستمد غالبها مشروعيته من التقاليد الذكورية التي قد تكون الأكثر رسوخاً، كإكراه الفتاة على الزواج أو منع المرأة من الخروج من المنزل. ويلحظ أن المشرع علّل توجهه ذاك بأن تعريف العنف بالمعاناة النفسية هو تعريف فضفاض جداً وقد يؤدي الى نتائج عبثية، كادعاء الزوج معاناة نفسية من جراء امتناع زوجته عن مجامعته. وعلى ضوء ذلك، استنتجت في المقالين المذكورين أعلاه أن المشرع يسعى الى منع الاجتهاد حول ماهية العنف من خلال تكريس مبدأ هجين مفاده أن «لا عنف من دون نص»، وذلك تحسباً لنتائج مشابهة لما وصل اليه قضاة الأحداث الناظرون في حماية الأطفال المعرضين للخطر: فلا يتوسع قضاة الأمور المستعجلة في تعريف العنف تمهيداً لاتخاذ قرارات حماية كما توسع قضاة الأحداث في تفسير مفهوم الطفل المعرّض للخطر ليشمل الحالات التي تكون فيها صحة الطفل النفسية معرّضة للخطر. ومن المعلوم أن عمل قضاة الأحداث قد أثار سابقاً (خصوصاً 2007) سخطاً عارماً لدى المراجع الطائفية بعدما أوقف قضاة أحداث تنفيذ أحكام شرعية بنقل طفل من أمه الى أبيه بحجة أن تنفيذها يعرض الصحة النفسية لهذا الطفل للخطر.
ومن هذه الزاوية، جاء القرار القضائي ليقلب تعريف العنف رأساً على عقب، وتالياً ليكون بمثابة رسالة مطمئنة الى الهيئات النسائية والنساء والرأي العام بشأن قدرة القضاء على إجابة عدد كبير من التحفظات أو المخاوف إزاء مدى فاعلية هذا القانون في حماية المرأة. وهي رسالة تلتقي في عمقها مع الرسائل التي كان قضاة وجّهوها قبل صدور القانون من خلال إعلان سلسلة من المبادئ، كمبدأ سلامة الانسان فوق كل اعتبار، أو المواقف كإعلان التمسك بحماية النساء من العنف المعنوي، أو واجب القضاء بالاجتهاد لتأمين حماية فعلية في هذا المجال.
وبالعودة الى تفاصيل القضية، قدمت المستدعية الى قاضي الأمور المستعجلة طلب حماية إزاء العنف الزوجي الذي تتعرض له، لها ولابنتها الرضيعة (8 أشهر). وكان ممثل النيابة العامة في بيروت بلال ضناوي قد أصدر، بناءً على تحقيقات الشرطة، قراراً بتوقيف الزوج، وذلك على خلفية تعرضه لزوجته بالضرب والإيذاء ومحاولة القتل والتهديد به، وتم إعلامها بإمكانية تقديم طلب حماية. وقد تبين لاحقاً لقاضي الأمور المستعجلة أثناء استماعه الى المستدعية والى شقيق زوجها أن هذا الأخير كان يقدم، فضلاً عما تقدم، على تعنيفها كلامياً ويمنعها من الخروج من المنزل إلا لبضع ساعات في الشهر. كذلك استعاد القاضي في قراره ما جاء في طلب الحماية لجهة واقعتي استيلاء الزوج على أوراقها الثبوتية وهاتفها الخلوي.

انقلاب في تعريف العنف

وتبعاً لذلك، وقبل أن يحدد القاضي التدابير الحمائية، كان لا بد له من أن يحدد بداية حالة العنف التي تسمح له باتخاذ تدابير كهذه. وقد برزت هنا بوضوح قدرته الريادية على تطوير النص القانوني وإعطائه معنى كما سبق بيانه. فبعدما بين أن إقدام الزوج على ضرب زوجته بيديه وبواسطة الحزام يشكل عنفاً أسرياً وفق ما نص عليه القانون صراحة، أردف قائلاً إن «العنف لا يقتصر فقط على التعرض الجسدي، ذلك أنه تبين من المعطيات المتوافرة في الحالة الراهنة أن المستدعية تعرضت كذلك لأنواع مختلفة من العنف لا تقل خطورة عن العنف الجسدي، وذلك عبر إقدام زوجها على تعنيفها كلامياً وإطلاق الشتائم بوجهها وتحقيرها، كما وعبر إقدامه على منعها من الخروج من المنزل الزوجي إلا لبضع ساعات في الشهر، دون أي سبب يبرر ذلك. وهو ما يشكل تعرضاً لأبسط حقوقها، وما يدخل دون أي شك في تفسير العنف الأسري المنصوص عليه في القانون 293/2014، ذلك أن العنف المقصود هو ذلك الذي يسبب الإيذاء النفسي أيضاً، ولا يمكن إلا الإقرار بجدية وخطورة الأذى النفسي الذي ينتج من قمع حرية تنقل الزوجة دون أي مبرر ومن تعنيفها كلامياً».
ومن خلال تحليل هذه الحيثية، تبدّت نية القاضي واضحة في التوسع في تفسير مفهوم العنف الأسري: فهو لا يقتصر على الأفعال التي شملها النص القانوني صراحة، بل يتعداها ليشمل عملاً بقواعد التفسير قياساً جميع الأفعال التي توازيها من حيث الخطورة. فمن العبث أن يشمل العنف الأسري التعرض بالضرب، فيما يخرج عنه المنع المتواصل أو المتكرر من الخروج من المنزل، وغير ذلك من تصرفات خطيرة.

استكمال لائحة تدابير الحماية

ولم يقتصر دور القاضي الريادي على إعادة تعريف العنف الأسري، بل تناول أيضاً لائحة تدابير الحماية. فقد سعى القاضي الى إضافة تدابير حماية قد تكون ضرورية الى لائحة التدابير التي نصت عليها المادة 14 من القانون، التي استند اليها طلب الحماية، بعدما ذكر أن دوره الحمائي يسمح له باتخاذ تدابير حماية بموجب صلاحياته العامة المنصوص عليها في المادة 579 أصول محاكمات مدنية.
واللافت أن القاضي لم يكتف بذلك، بل أخضع أي مخالفة لهذه التدابير المبتدعة منه للعقوبات الجزائية التي نص عليها قانون الحماية من العنف الأسري، والتي قد تصل الى سنة حبساً، على نحو يؤشر الى أنه تعامل مع لائحة تدابير الحماية المنصوص عليها في القانون على أنها مجرد لائحة إرشادية تضمنت بنوداً على سبيل المثال وليس الحصر، وأن بإمكانه تطويلها كلما رأى حاجة الى ذلك. ومن أبرز التدابير التي أضافها القرار في هذا المجال هي: «تكليف مساعدة اجتماعية بالقيام بزيارات دورية لمنزل المستدعية ولمدة ستة أشهر من صدور القرار، قابلة للتمديد، وذلك كلما دعت الحاجة أو بناءً على اتصال المستدعية لمراقبة حسن تطبيق القرار، على أن يمتنع الزوج عن التعرض لها». وقد علل القاضي ذلك باحتمال ألا تكون المستدعية قادرة على تقديم شكوى عند كل مخالفة للقرار.

الدفاع عن هذا
الاجتهاد بتعزيز الجاهزية الاجتماعية للدفاع عن استقلال القضاء
كذلك، من التدابير المبتدعة منع التعرض النفسي تبعاً لتوسيع تعريف العنف كما سبق بيانه، وأيضاً «إلزام الزوج بإعادة الأوراق الثبوتية العائدة للمستدعية ومنعه من الاستيلاء على هاتفها الخلوي كما والسماح لها بالخروج من المنزل الزوجي». وقد جاءت هذه التدابير لتكمل تدابير أخرى وردت صراحة في النص القانوني، وهي منع التعرض الجسدي ومنع التعرض لاستمرار الضحايا في إشغال المنزل وإخراج الزوج لأسبوع من المنزل وإلزامه بتسديد سلفة ومنعه من إلحاق الأضرار بأي من الممتلكات الخاصة للضحايا أو بالأثاث المنزلي والأموال المشتركة أو التصرف بها. كذلك فإنه في السياق نفسه، فرض على الزوج الخضوع لدورة تأهيلية في مركز عائد لمنظمة كفى على نفقته، منعاً لتكرار العنف.

صلاحية شاملة في حماية الأطفال

أما الأمر الثالث الذي تجلى فيه دور القاضي الريادي، فهو يتصل بإعلان صلاحيته الشاملة لحماية الأطفال. ففيما اقتصر طلب الحماية المقدم من الزوجة على حمايتها وحماية ابنتها ذات الثمانية أشهر، رأى القاضي أن مطالبته بتدبير حماية تخوله كلما رأى حاجة إلى ذلك أن يوسع نطاق الحماية ليشمل قاصراً من أفراد الأسرة، حتى ولو لم يشمله طلب الحماية، وذلك سنداً للمادة 12 من القانون التي تنص على استفادة سائر المقيمين مع المرأة المعنية من تدبير الحماية إذا كانوا معرضين للخطر. وانطلاقاً من ذلك، وسع القاضي تدابير الحماية لتشمل قاصراً آخر هو ابن الزوج البالغ من العمر عشر سنوات (نفهم أنه من امرأة غير المستدعية) بعدما تبين له أنه يتعرض أيضاً للعنف، من خلال إقدام والده على تعنيف زوجته أمامه، «وهو ما يشكل كذلك بحد ذاته عنفاً أسرياً يسبب إيذاءً نفسياً لأفراد الأسرة المذكورين».

عدم جواز نشر الأسماء حماية للعائلة

وفضلاً عن كل ما تقدم، أبرز القاضي حساسية فائقة إزاء حماية العائلة على نحو يؤدي هنا أيضاً الى استكمال أحكام القانون. ففيما فرض القانون أن تكون المحاكمات المتصلة بالعنف الأسري سرية، استند القاضي الى روحية هذا النص ليمنع نشر اسم المستدعية أو زوجها في حال نشر القرار أو في كل ما يتعلق بالمسألة الراهنة. واللافت أنه عمد هنا، تحسباً لأي تعسف في استعمال هذه القاعدة، الى حصر انطباقها على الحالات التي لا يوجد فيها أي فائدة من اطلاع الرأي العام، كما قد تكون عليه الحالة في حال كان المعنّف شخصية عامة مثلاً. وأهم من ذلك، عاد القاضي وشمل منع إفشاء هذا السر ضمن تدابير الحماية التي تخضع أي مخالفة لها للعقوبات نفسها المشار اليها أعلاه.

استنتاجات وخلاصات

وختاماً، جاز استخلاص أمور أربعة:
الأول، أن هذا القرار الأول لتطبيق القانون جاء بمثابة تنبيه للرأي العام أن بإمكان القضاء أن يؤدي دوراً أساسياً، ليس فقط في إعطاء القانون مفاعيله، بل أيضاً في استكمال بنوده وتصويبها كما حصل بشأن تعريف العنف، وعلى نحو قد يسمح بتجاوز الشوائب الكبيرة الواردة فيه والتحفظات عليه. ففيما قد يبقى المشرع أسيراً في حساباته الطائفية المحافظة فيضع نصوصاً مبتورة وغير منطقية، يعود للقضاء أن يجتهد لإعادة الانسجام بين النصوص التشريعية وأسس المنطق الحقوقي.
الثاني، يظهر العمل القضائي مجدداً أنه يتفاعل بشكل كبير مع التخاطب العام ومع تطور الوعي العام. وهذا الأمر إنما يضيء على أهمية نجاح المنظمات النسوية (وفي طليعتها منظمة كفى) في فرض قضية العنف ضد النساء كقضية عامة. فمن شأن هذا النجاح بالطبع أن يحفز القضاة على تطوير اجتهاداتهم وسط قبول اجتماعي واسع، وهي نتيجة قد تعوّض عند توافر ظروف مؤاتية معينة، بشكل كبير، عن النقص الحاصل في التشريع. وبالطبع، قد تصبح هذه الظروف غير مؤاتية في حال استدعت هذه الاجتهادات ردود أفعال مضادة من القوى المحافظة أو ترافقت مع تعرض كبير لاستقلال القضاء على نحو يذكر بالممانعة التي لقيها قضاة الأحداث عند توسعهم في تعريف مفهوم «الطفل في حال الخطر» . ومن هنا، يظهر واضحاً أن الدفاع عن هذا الاجتهاد يستلزم تعزيز الجاهزية الاجتماعية للدفاع عن استقلال القضاء في مواجهة أي تدخل.
الثالث، أن هذا القرار يفتح الباب واسعاً أمام تطوير دور القضاء الحمائي، ليس فقط للمرأة، بل أيضاً لجميع الفئات التي تتعرض للعنف الجسدي أو المعنوي، وفي مقدمتهم عاملات المنازل. وهذا ما نقرأه بوضوح كلي من خلال تركيز القاضي على واقعة منع الزوجة من الخروج من المنزل والاستيلاء على أوراقها الثبوتية، وهي واقعة تعاني منها آلاف عاملات المنازل. فإذا كان من العبثي استبعاد هذه الأفعال من إطار قانون حماية النساء من العنف الزوجي بالنظر الى نتائجه الخطيرة، فمن العبثي أيضاً أن يبقى القاضي مكتوف اليدين إزاء الأفعال نفسها التي قد ترتكب بشكل ممنهج ضد عاملات المنازل. ويؤمل تالياً أن يشكل هذا القرار فاتحة لتقاض استراتيجي لتحسين شروط عمل هذه الفئات.
الرابع، أن هذا الاجتهاد ما كان ليحصل لو ترك أمر إصدار قرار الحماية للنيابة العامة كما تطالب به منظمة كفى. فعدا عن أن النيابة العامة لا تتمتع بفعل تنظيمها التسلسلي الهرمي بضمانات الاستقلالية الكافية، فإنها تبقى بطبيعة عملها وصلاحياتها غير قادرة على الاجتهاد على النحو الذي تقدم. ولا يرد على ذلك بأنه يخشى أن تمارس ضغوط كبيرة على المرأة للتنازل عن حقوقها بانتظار قرار الحماية، فبإمكان قاضي الأمور المستعجلة أن يتخذ القرار في اليوم نفسه ولو كان يوم عطلة، فيما الرابط القوي بين النيابات العامة غير المستقلة وأصحاب النفوذ قد يحولها هي الى عامل الضغط الأول لثني المرأة عن حقوقها ولتغليب التسويات. لكن، هذه طبعاً مسألة أخرى.
* ينشر بالتزامن وبالتعاون مع المفكرة القانونية www.legal-agenda.com