فيما يتصاعد الجدل علمياً حول سدّ المسيلحة في البترون، يخشى أهل المنطقة على نهر الجوز الذي يغذّي بحيرة السد. يخشون تلاشي ذاكرتهم الجماعية المرتبطة بطواحينه وأرزاقهم وأفراحهم.
لا يغنّي أهل بلدات البترون والكورة الواقعة على جانبي النهر الذي يفصل بين القضاءين «كان عنا طاحون ع نبع المي»، بل طواحين كثيرة على طول النهر.

يُعتبر نهر الجوز من منبعه في جرد تنورين إلى مصبّه في جوار قلعة المسيلحة، معلمًا سياحيًا، وشرياناً حيوياً للبلدات. وتقع على ضفافه مطاحن أثرية تعود إلى العهدين العثماني والمملوكي.

من إحدى قصص هذه الطواحين أنّ أصحابها كانوا يربّون فيها أفعى سوداء اللون لتأكل الجرذان وبذلك يحافظون على الغلة من الطحين والبرغل والقمح.

يوسف حنون يستذكر ملامح من طفولته في الطواحين. تعلّق التسعيني بصوت الحجر الذي كان يطحن القمح وكأنّه نغمة على لحن واحد. ويتذكّر أنّ أحد الخوارنة من البلدات المجاورة كان يأتي في النهار إلى الطاحونة وكانوا يراقبونه، وإذ به يغفو قرب النافذة على أنغام حجر الطاحونة ويستيقظ عندما يتوقف الحجر عن الدوران. كما يخبر عن البركة التي كانت موجودة في تلك الأيام والفاكهة والثمار المروية من مياه النهر. أما في السنوات الأخيرة، فقد تبدّلت تلك اللوحات الشعرية بمجاري المياه المبتذلة الآتية من البلدات وتصبّ فيه.

الجسور الحجرية من القناطر الموجودة قرب النهر هي صلة الوصل بين قرى القضاءين. في العام 1950 توقف جزءٌ من المطاحن عن العمل بعد الثورة الصناعية ولكنّ بعضها ظلّ يعمل حتى العام 1976 اأي مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية.
الأخبار()

أما تسميات المطاحن فكانت وفقاً لأسماء مالكيها من الطبقة الغنية من آل أرسلان وآل فريفر وآل جنبلاط وغيرها ونسبة لصفتها مثلاً مطحنة «الظرافية»، سُمّيت هكذا نسبة لصفتها «الظريفة». أما مطحنة الجوز فكانت تسميتها نسبة لموقعها قرب مساحات شاسعة من أشجار الجوز المحيطة بها. 46 طاحونة تبقّى منها حوالي 22. منها طواحين بححرين وهي الطواحين الصغيرة وأخرى تعتبر كبيرة بثلاثة أحجار.

وبحسب جان نخول، أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية-قسم التاريخ، كانت الطواحين ملتقى لأهالي البلدات للتعارف، وكان صاحب المطحنة يقوم بطحن حصة الغرباء القادمين من بلدات بعيدة على ظهر البغال مثلاً من طرابلس وعكار، قبل غيرهم لأنه يأخذ بالاعتبار أنّ «مشوارهم طويل». وكان أهالي القرى المجاورة يأتون بالدور لطحن المحاصيل. أما أجرة صاحب المطحنة فكان جزء منها بالعملة النقدية وجزء آخر «رطل». من الغلة. وتحولت فيما بعد أماكن تخزين الكميات من الغلة الى دكاكين والى بعض الغرف لينام فيها الذين يتأخر دورهم وطريقهم بعيد.

هناك بعض الطواحين ما زالت بكيان جيد. هادي شلق شاب لبناني ورث مطحنة عن أجداده وقرّر الاستفادة من هذا الإرث وخاصة بعد أن أصبح هناك درب المسيلحة التي تمرّ بأرضه لإقامة مشروع سياحي في المنطقة. إذ استفاد أيضاً من مواقع التواصل الاجتماعي لينشر صوراً عن مشروعه ويستقطب إليه من يريدون قضاء عطلة في الطبيعة. مشروعه مقسّم إلى ثلاثة أقسام، قسم لمن يحبّ التخييم، فهناك خيم للنوم قرب النهر وإنارة جميلة ونار في الليل، وقسم ثانٍ وهو مقهى وقهوة وجلسة نرجيلة قرب النهر تحت «فيّات» الأشجار، وقسم ثالث لمن يحب أن يجلب طعامه ويأتي مع العائلة أو الأصدقاء فيستأجر طاولة وكراسي ويقضي نهارًا قرب النهر.

اعتاش الآباء والأجداد قديماً، من خيرات وادي نهر الجوز، فضلًا عن المطاحن المنتشرة على ضفتي النهرـ وكي لا تكون هذه المنطقة التراثية منسية بعد أن كانت تضجّ بالحياة، لا بدّ من إعادة ترميمها أو ترميم واحدة منها على الأقل وتشغيلها بوقت محدد وبذلك يأتي الزوار والسياح لمشاهدة كيفية عملها وجمال المنطقة.