في إحدى ثانويات منطقة الضاحية الجنوبية، تراجع عدد المتعلمين من 750 عام 2019 إلى أقل من 250 العامَ الدراسي الماضي، وفي مدينة صور خسرت ثانوية أكثر من 1000 تلميذ خلال عامين فقط. وهناك توجّه لدى وزارة التربية إلى دمج ثانويات رسمية بسبب تراجع عدد التلامذة، إذ لا يمكن ترك مدرسة مفتوحة بشكل مستقل بأقل من 100 تلميذ. في المقابل، خرج الأساتذة من أيام الإضرابات الطويلة بـ«صفر إنجازات»، فلم يتحقق أي مطلب، بل بقيت أوضاعهم المعيشية في تدهور مستمر.
على الضفة الأخرى، انتعشت المدارس الخاصة في فترة الأزمة الاقتصادية، ووسّعت من أعمالها، وبعضها اشترى أبنية مدارس متعثّرة أو مقفلة لزيادة عدد مقاعدها واستقطاب المزيد من التلامذة. في الهرمل، مثلاً، فتحت ثلاث مدارس خاصة جديدة أبوابها خلال عام واحد.
ولا يقلّ الفاقد التعليمي فداحةً عن الهجرة من الرسمية إلى الخاصة، فقد خسر التلميذ في لبنان سنة ونصف سنة دراسية خلال ثلاثة أعوام. الثقة فُقدت تماماً بين التلميذ والأستاذ، بعدما تخطّى عدد الأيام التعليمية الضائعة بسبب الإضرابات، بالإضافة إلى الأعطال القسرية غير الرسمية، الـ 150 يوماً على مدى ثلاث سنوات دراسية. في حين بلغ عدد الأيام التعليمية الفعلية خلال العام الدراسي 96 يوماً فقط بسبب التقليصات العشوائية لوزارة التربية خلال سنوات الأزمة.
يبقى السؤال: على من تقع مسؤولية فتح المدرسة الرسمية، الأساتذة أو الدولة؟ المعلمون موظفون لدى الحكومة التي يقع على عاتقها تأمين رواتب تسمح لهم بالعيش الكريم، وتقديمات اجتماعية وتغطية صحية ومعاش تقاعدي، بعدم ولّت «أيام العز» التي عاشها الموظفون قبل عام 2019. الرواتب تدهورت قيمتها الشرائية مع ارتفاع سعر صرف الدولار 58 ضعفاً، ووصل أساس الراتب الى أقل من 30 دولاراً. والتغطية الصحية لا تؤمّن أكثر من 15% من قيمة الفاتورة الصحية، وبعض المستشفيات يرفض استقبال المرضى على حساب تعاونية الموظفين.
حُشر الموظفون، ومنهم الأساتذة في زاوية الإضراب. الدولة لا تقدّم حلولاً منطقيةً تعيد إليهم شيئاً من العيش الكريم. وزارة التربية مثلاً تطلب منهم التعليم على حسابهم في المدارس، فالرواتب في العام الدراسي الماضي مع الحوافز بالعملة الأجنبية لم تكف حتى للوصول إلى المدارس أربعة أيام أسبوعياً، وهذه السنة لا حوافز أبداً بعد نفض الجهات المانحة يدها من تعليم اللبنانيين. في المقابل، خسر الأساتذة بإضراباتهم ثقة «أهل المدرسة الرسمية»، وتخلخلت قاعدة من قواعد التعليم الرسمي المتمثّلة بالتلامذة. أما الخاسر الأكبر، فالفقراء الذين فقدوا جواز عبورهم نحو الترقّي الاجتماعي والوظيفي بتغييب دور المدرسة الرسمية، وتهديد أصل وجودها.
في صور خسرت ثانوية أكثر من 1000 تلميذ خلال عامين فقط
الإضراب حق لتحصيل الحقوق، ولا نقاش في أصل التحرك، إنّما في جدوى الاستمرار بتكرار التحرك نفسه رغم عدم الوصول إلى أي نتائج. فالسلطة السياسية تعلّمت كيفية كسر الإضرابات وإجهاضها في مهدها، واستفادت منها للقول «إنّ الموظف في القطاع العام غير منتج، وعلينا التفكير في طريقة أخرى لإدارة القطاع العام بعيداً عن الموظفين المضربين». طوال السنوات الماضية، بعد عام 2019، لم ينجح إضراب واحد في تحقيق أيّ من المطالب، واستخدمت الأحزاب الأدوات النقابية المتمثّلة بالروابط لتحقيق مآرب سياسية، والمناكفة. وعند تعطل أي ملف سياسي في وزارة التربية كانت تلجأ الروابط للإضراب، في حين لم تهتز الأخيرة عند قيام الوزارة ذاتها باستدعاء الأساتذة للتحقيق والحسم من رواتبهم.
المعلمون، على مشارف العام الدراسي المقبل، يهددون بـ«لا عودة إلى التعليم» بالتقديمات ذاتها، إذ إن قيمة الراتب المضاعف سبع مرات لا تزيد على 200 دولار. ومن جهة أخرى، الأهالي القادرون على نقل أولادهم من المدرسة الرسمية نقلوهم، ولن يبقوا عليهم لـ«سنة أخرى من العذابات». والقدرة تتلخّص فقط بـ«تأمين 500 دولار سنوياً للدخول إلى مدرسة خاصة من المستوى العادي». أمام انسداد أفق الحلول تماماً، وعدم اهتمام السلطة السياسية بتقديم حلول، وعدم قدرة الأساتذة على تسيير المدرسة الرسمية على حسابهم، ودعم الأحزاب للمدرسة الرسمية بالكلام، والخاصة بالأموال، فربما نكون أمام عام دراسي من دون تعليم رسمي!