كأنّ الدولة تتعاطى مع التعليم من منطلق أنه شأن خاص بوزارة التربية وروابط الأساتذة المسيّسة والمؤسسات التربوية الطائفية، أما الفاعلون الأساسيون والمستفيدون من هذه الخدمة، ولا سيما الأهالي والطلاب والمعلمون، فمغيّبون عن صناعة القرار، إذ ليس مفهوماً لماذا لم تدعُ لجنة التربية النيابية إلى الورشة التربوية التي تنظّمها اليوم وغداً وبعد غد، اختصاصيين تربويين للجلوس على المنصة الرئيسية وإطلاع المشرّعين على ما يحصل في قطاع التعليم وما هي الاقتراحات والحلول. كما من المستغرب تغييب لجان الأهل في المدارس الخاصة ومجالس الأهل في المدارس الرسمية عن الورشة، فلا يسمع النواب ويعون كيف يشرّعون لتعليم عادل ومنصف وضامن لمستقبل أولادهم، وكيف يتم تجاوز الهيئات والمجموعات المعترضة على أداء الوزارة وأداء روابط المعلمين الموالية وغير الموالية للأحزاب، وهي تمثل جزءاً كبيراً من المعلمين، ولماذا لا يحضر التلامذة والطلاب الجامعيون لمعرفة ماذا يريدون من التعليم، وكيف يمكن تلبية احتياجاتهم وتطلّعاتهم، ولماذا تغيب، أيضاً، مراكز الأبحاث المستقلة والهيئات الدولية المراقبة لوضع الطفولة والحقوق وغيرها من مؤسسات المجتمع المحلي من بلديات ومجتمع مدني، وهل من الطبيعي أن لا يُعرض في الورشة تقرير واحد يقارب واقع التعليم بموضوعية، علماً أن هناك ما يزيد على 50 تقريراً ودراسة وطنية ودولية تتناول وضع التعليم اليوم ومستقبله؟ومن هذه الدراسات مقالة بحثية للباحث التربوي عدنان الأمين (صادرة عام 2023 عن معهد عصام فارس عن السياسات الحكومية والخسائر التربوية) يشير فيها إلى أن «الوزارة ومعها الحكومة تعمل وكأنها تنظر إلى نفسها في المرآة، بدلاً من أن تنظر إلى المستفيدين الذين تدّعي أنها تخدمُهم، فتتحدّث مراراً عن إنجازاتها...». كأن تتغنّى الوزارة، مثلاً، بالمشاريع الكبرى المموّلة من الجهات المانحة والخطط الخمسية وإطار المناهج، فيما النتائج المنظورة كارثية: سنوات تعليم متعثّرة، شهادات رسمية متدنية المستوى، تراجع مستوى لبنان في الاختبارات الدولية، تسرّب مدرسي متفاقم، غياب التفتيش التربوي والتدقيق المالي والقرارات الضابطة للأقساط في المدارس الخاصة، وتراجع للمستوى الاجتماعي للمعلمين. ويقول الأمين إن «الضحايا الحقيقيين هم الطلاب في المناطق المهمّشة والفئات الاجتماعية الدنيا الذين يتابعون تعليماً فقيراً يتناسب مع فقرهم الاجتماعي والشباب من هؤلاء، التاركون للمدرسة باكراً وغير التاركين، هم طبعاً أول المستجيبين لإرادة الأحزاب السياسية».
الفئة الاجتماعية الفقيرة المستحدثة أيضاً، برأينا، هم المعلمون والأكثر فقراً بينهم المتعاقدون المذَلّون والمهانون والذين ليس لديهم خيار الرحيل، فهناك 40 ألف معلم على حافة الذل، 80% منهم نساء ومثلهم في القطاع الخاص، فضلاً عن العقوبات الجماعية لأكثر من نصف أساتذة التعليم الثانوي الذين يطالبون بحقهم في العيش الكريم.
ويدفع النظام التربوي اليوم، بحسب الأمين، الكثير من المؤسسات التعليمية، الرسمية والخاصة، إلى العمل بطريقة مقلوبة: الطلاب هم زبائن لتسويغ تعيين المعلمين والمديرين ثم المسؤولين الإداريين، «من أجل نيل حظوة السياسيين من الحماية والمنافع. ليصبح القطاع التربوي مجموعة مناطق ذات نفوذ سياسي»، ونقول أيضاً نفوذ ربحي أو أيديولوجي وطائفي بما يخصّ المدارس الخاصة التي تستفيد من إضعاف التعليم الرسمي لتزيد مدارسها بنحو 800 مدرسة بين عام 1985 وعام 2000، ولنكن أكثر دقة: غالبيتها بعد اتفاق الطائف ونظام المحاصصة. المفارقة أن أعداد التلامذة اللبنانيين بين الخاص والرسمي تناقصت في السنوات الخمس الأخيرة ربما بسبب الهجرة أو بسبب عدم الالتحاق بالمدرسة لاعتبارات اقتصادية. فكيف يفسر الوزير تناقص أعداد التلامذة في بيروت من أكثر من 18266 إلى 12831 تلميذاً (أي الثلث) بين عامَي 2019 و2023 من دون أن تتزايد أعداد الملتحقين بالمدارس الخاصة؟
وفيما يرى الأمين أن «المشكلة الكبرى تكمن في تشويه العقول، عقول المعلمين والمتعلمين على السواء عن طريق السعي إلى إدراجهم ضمن أجندات سياسية وحرف إدراكهم وتحويلهم الى جماهير تابعة لدى الأحزاب السياسية والمؤسسات الطائفية، نشير إلى أن التعليم الخاص النخبوي خرج تماماً عن سياق التعليم الوطني ويعتمد أنظمة تعليم دولية وأجنبية تم التشريع لها في المجلس النيابي عوضاً عن حماية شهادتنا الوطنية وردّ اعتبارها بعدما كانت أقوى من البكالوريا الفرنسية».
وتكمن مشكلة كبرى أخرى في عجز الإدارة عن تنظيم أعمالها وتأمين الأموال اللازمة لموظفيها، فاختارت تلزيم المديريات والمركز التربوي للجهات المانحة لتضع لها البرامج وخطط التدريب والدراسات، ولمكاتب ائتمانية تنظّم لها إنفاق المساعدات والهبات.
التعليم منفعة عامة مشتركة وحقّ عام يخضع للمحاسبة العامة، فهل يمكن لجحا وأهل بيته الذين أوصلونا إلى هذا الدرك من الهزال التربوي إنقاذ التعليم؟ التعليم مسؤولية المجتمع كله وعلينا السعي لتفعيل القوانين والقرارات المتعثرة والمتوقّفة والمؤسسات الرقابية النائمة والبليدة اليوم لوقف الانحدار. لا نحتاج إلى إقرار سلة قوانين وتشريعات عشوائية على عجل كما يحصل، بل نحن بحاجة إلى تفعيل وتطبيق القوانين الموجودة والناظمة للقطاع والمؤسسات الرافدة له لضمان فعّالية أفضل، من ضمنها تصحيح أجور المعلمين والضمانات الاجتماعية والصحية، بالتزامن مع وضع خطة تشاركية إنقاذية حقيقية.

* باحث في التربية والفنون