كأنّ حملة التهويل الرسمية بشأن الارتفاع الكبير في أعداد التلامذة السوريين باتت «الشماعة» لتغطية الخلل الناتج عن تناقص أعداد التلامذة اللبنانيين الملتحقين بالتعليم بقطاعيه الرسمي والخاص. فتهويل وزارة التربية لأرقام مضخّمة حول أعداد التلامذة السوريين، يحمل ابتزازاً للجهات المانحة مجدداً، بما أنها تتضارب مع أرقام المركز التربوي للبحوث والإنماء.وتبدو أرقام النشرة الإحصائية للمركز للعام 2022 - 2023 (تصدر قريباً وقد حصلت «الأخبار» على نسخة من بعضها) أكثر دقة لناحية إحصاء أعداد التلامذة، إذ أظهرت أن مجموعهم في التعليم الرسمي (دوام قبل الظهر) بلغ نحو 303 آلاف، موزّعين كالآتي: لبنانيون (263 ألفاً و687 تلميذاً)، سوريون (31 ألفاً و269 تلميذاً)، فلسطينيون (3 آلاف و962 تلميذاً)، وجنسيات أخرى (3 آلاف و181 تلميذاً).
وبالمقارنة مع العام 2018 - 2019، يتبين أن أعداد التلامذة اللبنانيين في التعليم الرسمي تناقصت بنحو 15 ألفاً و700 تلميذ، فيما تراجعت أعداد السوريين بنحو 12 ألفاً و700 تلميذ. لكنّ اللافت أن أعداد التلامذة السوريين في التعليم الخاص، خلال الفترة نفسها، زادت من نحو 49 ألفاً و500 تلميذ إلى نحو 84 ألفاً و800، علماً أن أرقام مصلحة التعليم الخاص في وزارة التربية تشير إلى وجود 96 ألفاً و800 تلميذ سوري في المدارس الخاصة. وبينما أصدر وزير التربية عباس الحلبي قراراً بعدم قبول تسجيل التلامذة السوريين في المدارس الخاصة، نسّقت بعض الجمعيات مع المدارس الخاصة لتأمين «فريش دولار» لتسيير أعمالها، على عين الوزارة، إذ ليس مقبولاً القول بأنها لم تكن على علم بهذه التسوية، باعتبار أن الأعداد ملحوظة، ولا يمكن التغاضي عنها أو إخفاؤها.
هذا يعكس أيضاً عجز الوزارة عن تقديم جودة تعليم في غالبية المدارس الرسمية للاجئين السوريين بعد الظهر، وهي أوجدت حلولاً تحت الطاولة لتلزيم تعليم السوريين للقطاع الخاص، مع إصرارها على ابتزاز الجهات المانحة للحصول على تمويل إضافي. يُذكر أن آخر إحصاء منشور لأعداد التلامذة السوريين في دوام بعد الظهر هو أقل من 149 ألفاً للعام 2019 - 2020.
في ما يتعلق بنسب التلامذة لدوام قبل الظهر، يتبين أن هناك 83.27% هم لبنانيون مقابل 10.87% هم سوريون، وقد زادت نسبة التلامذة السوريين من 9.1% إلى 10.87% خلال خمس سنوات، وهي منطقية إذا ما قيست بنسب الولادات، لكنّ اللافت أن عدد اللبنانيين في المدارس تراجع، وهذا ما يعزز زيادة نسبة التلامذة غير اللبنانيين، فطريقة عرض الأرقام هي تغطية لمشكلة في مكان آخر تماماً، هي أعداد التلامذة اللبنانيين في المدارس الرسمية والخاصة.
الأزمة لبنانية إذاً، إذ يبدو مستغرباً أن تتناقص أعداد التلامذة اللبنانيين، خلال خمس سنوات، بدلاً من أن تتزايد. فكما هو معروف، تزيد نسب الولادات عدد السكان بمعدل 8 آلاف طفل في السنة (استناداً إلى متوسط الزيادة للملتحقين في المدارس خلال الأعوام السابقة قبل عام 2019)، إلا أن أعداد التلامذة اللبنانيين المسجّلين في المدارس الخاصة والرسمية بين عامَي 2019 و2023 تراجعت بنحو 15 ألفاً و650 تلميذاً فيما يفترض أن تزيد إلى 40 ألفاً. أي إن الأعداد تراجعت من نحو 912 ألفاً إلى نحو 898 ألفاً. وما هو مستغرب أيضاً أن تلامذة مدينة بيروت تراجعوا بنحو الثلث من 18 ألفاً و226 تلميذاً إلى 12 ألفاً و831 تلميذاً في التعليم الرسمي من دون أن تتزايد أعداد التلامذة في القطاع الخاص.
تراجع عدد اللبنانيين في المدارس الخاصة والرسمية بين عامَي 2019 و2023 بنحو 16 ألفاً فيما يُفترض أن يزيد إلى 40 ألفاً


وتجدر الإشارة إلى أن المدارس الرسمية في المحافظات الأخرى، ما عدا محافظتي عكار وبعلبك-الهرمل، شهدت تراجعاً ملحوظاً في أعداد الملتحقين بها وزيادة ملحوظة في الخاص. أما عكار وبعلبك والهرمل فشهدت تزايداً في أعداد الملتحقين بالرسمي والخاص معاً.
يعكس التعليم صورة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بوضوح، فما سينتج عن رفع الأقساط و«دولرتها» هذا العام سيقلب بعض المعادلات، وقد تكون معادلة العام السابق مختلفة عن العام الدراسي الحالي. لا نعرف حقيقة مدى قدرة اللبنانيين على التأقلم مع دولرة الأقساط ومقاومة الأزمة ولكن هناك مؤشرات مقلقة، استناداً إلى نتائج استبيان مركز الدراسات اللبنانية للباحث محمد حمود التي خلصت إلى أن 41% من العائلات اللبنانية المشاركة لديها على الأقل طفل تحت 18 سنة خارج المدرسة، ما يعني أن هناك نحو 150 ألف طفل لبناني خارج المدرسة أو متسرّب من الفئات الفقيرة والأكثر فقراً أو التي التحقت أخيراً بطبقة الفقراء. وتتطابق نتائج دراسة حمود مع أرقام النشرة الإحصائية للمركز التربوي، بحيث إن تلامذة الصف الرابع الأساسي بلغوا، في عام 2019، 77 ألفاً و982 تلميذاً، ومن المفترض أن تبقى نسبة عالية منهم في الصف التاسع الأساسي في عام 2023 إلا أن أعدادهم تضاءلت إلى 56 ألفاً و763 تلميذاً، أي ما يقارب 21 ألفاً بعد خمس سنوات.
فما هي الإجراءات التي ستتخذها وزارة التربية لزيادة التحاق التلامذة اللبنانيين بالمدارس الرسمية والخاصة؟ وهل ستنجح في انتظام العام الدراسي الحالي من دون تسوية أوضاع المعلمين في القطاعين؟ وهل ستعلن عن خطة قابلة للتنفيذ لتعويض الفقدان التعلّمي وخلق حوافز ودافعية لدى المتسرّبين للعودة إلى المدرسة، أم أنها ستستمر في إلهاء المجتمع بأرقام مضخّمة وحلول ملتوية وعقوبات وملاحقات وتأديب هنا وهناك، وهي الفاعل الأساس لحل أزمة التعليم، بينما الحلول متوافرة لكنها مستبعدة؟
* باحث في التربية والفنون