من الثابت أنّ سهل البقاع كان من أخصب الأراضي المنتجة للغذاء في كل المنطقة الشامية وأكثرها إنتاجاً. فألبان بعلبك، والتي تنتجها قطعان الماعز ومراعيها الخصبة في السفوح المجاورة، مذكورة في أدبيات تعود إلى ألفَي سنة تقريباً. كما أن أعناب السهل وفاكهته (وخصوصاً المشمش) وضروب تصنيعها المُتنوّعة معروفة في ما سجله الرحّالة الذين زاروه. ويُفهم من بعض المنقولات التاريخية أنّ إنتاج السهل من القمح كان يصل إلى أماكن قصيّة، ومن ذلك أنه وُصف بـ«أهراء روما». وحتى أثناء الاحتلال العثماني الوحشي للمنطقة، حافظ السهل وهضابه جزئياً على طاقتهما الإنتاجية. ونذكر دليلاً على ذلك، أنه بعدما دمّر فخر الدين المعني بعلبك، وهجّر أهلها، وقطّع أشجار بساتينها وصادر قطعانها، في النصف الأول من القرن السابع عشر، ظل رجاله وأتباعه على مدى شهرين ينهبون وينقلون ما في حواصلها من الحبوب، ما يدلّ على أن السهل حافظ على طاقته الإنتاجية، بإرادة أهله الصلبة، رغم الظروف السياسية المُحبطة طوال مدة الحكم العثماني الطويلة.والحقيقة أن انهيار طاقة السهل الإنتاجية، كما هي عليه اليوم، لم يحصل إلا في فترة الاحتلال الفرنسي للبلد تحت مسمّى مضلّل هو «الانتداب». واستمر الانهيار وتفاعلاته منذ ما سُمّي بـ«الاستقلال» حتى اليوم، من ضمن خطّة شاملة رمت إلى تعطيل الطاقة الإنتاجية للسهل وأهله في الميادين كافة، وخصوصاً في ميدانَي الإنتاج والعمران، كجزء من سياسةٍ ترمي إلى حصر التنمية في قلّة محظوظة بوصفها من جرى اصطناع الكيان السياسي الجديد (بأطواره الثلاثة المعروفة: لبنان، لبنان الكبير، والجمهوريّة اللبنانيّة) من أجلها، على حساب المصالح المتفاوتة لغالبية المواطنين، ما خلّف صنوفاً من البلايا في سهل البقاع خصوصاً، لا تزال إلى يومنا تعطل عوامل التنمية فيه، من دون أن يعني ذلك اقتصارها على السهل.
من أبرز معالم هذه السياسة الإحباطيّة ما يُسمّى «المخطّط التوجيهي» للمدن والبلدات. وهو عمل دقيق، له أهله من ذوي الاختصاص، تتقاطع فيه السياسة مع همم ومساعي الأفراد وإمكاناتهم ومواصفات البلدات، بحيث تضبطها وتوجّهها. والغاية من «المخطّط» توجيه وضبط ضُروب استثمار المواطنين في إعمار المدينة أو البلدة وفقاً لشروط ومواصفات خاصة، بما يتناسب مع مواصفاتها ومؤهلاتها ومعالمها، فلا تُترك في فوضى لا ضابط لها.

(الأخبار)

هذا هو المقصد الطبيعي السّويّ للمخطّطات التوجيهيّة. ولكن، سنتخذ من «المخطّط التوجيهي» المعمول به لمدينة بعلبك أنموذجاً على توظيف قضية نمطٍ من تخطيط التنمية، بما يؤول إلى عكس الغاية المرجوّة منها، أي إلى ما يُسمّى، في اللغة النقديّة، بـ «التنمية المعكوسة». وهذه، كما يشير اسمها، عنوان للتنمية يستبطن عكسها لغرضٍ سياسي، بالمعنى السيئ لكلمة «سياسة»، ويرمي إلى تأسيس الشروط المناسبة لتمكين سُلطةٍ ومجموعةٍ حصريّةٍ بعينها، بعيداً من توخّي ما فيه المصلحة العامّة.
وُضع «المخطّط التوجيهي» لبعلبك في أربعينيات القرن الماضي، ولا يزال معمولاً به حتى اليوم، بعد نحو 80 عاماً على وضعه وإقراره، مع أنّ القانون يقضي صراحةً بسقوط أي مخطط توجيهي بعد مرور 25 سنة على إقراره من دون تنفيذه، لحساب مخططٍ جديد. والحجّة في هذا الوضع البالغ الشذوذ أنه ما من بديل عنه. ومن الواضح أن النخبة من أهل بعلبك، بسكوتها، تشترك مع أجهزة الدولة في المسؤولية عن هذا التقصير الفاضح.
ونذكر، بالمناسبة، أنّ الشبيه الوحيد لمخطّط بعلبك المشؤوم، من حيث الوسيلة والمقصد، كان المخطط التوجيهي لمدينة صور، والذي أسقطه أهلها ووضعوا آخر صالحاً لمدينتهم في سبعينيات القرن الماضي، قبيل انفجار الحرب الأهليّة.

بعلبك المضطهدة
من المعلوم أنّ المخطّط التوجيهي الأول لبعلبك وضعته سلطة الانتداب بمرسوم تشريعيّ، يفتقر إلى العناصر الفنيّة الاحترافيّة التي من شأنها أن تُعلّل عناصره وأحكامه، والغايات التنمويّة التي يرمي إليها. وهذا وحده كافٍ للتشكيك في أغراض هذه السلطة ومقاصدها منه.
نظرة سريعة إلى هذا المخطّط الأُعجوبة كافية لأن تثير الذهول ممّا انطوى عليه من عناصر ينقضُ بعضُها الآخر، ويكشف التمعّن أنها ترمي إلى غرضٍ بعينه. فمن جهة، يحفل المخطط بمشروعات مستقبلية سخيّة، توحي وكأن ميزانية الدولة ستُسخّر لبعلبك على مدى سنوات، لتجعل منها مدينةً عصريّة شأن المدن الكبرى: شوارع عريضة، متوازية ومتقاطعة، تخترق المدينة من كل الاتجاهات، من ضمنها أوتوستراد دائري يحيط بها تلتقي عنده وتصدر عنه كل الطرق الداخليّة؛ مدينة رياضيّة حسنة التجهيز؛ و«قصر ضيافة» يحتلّ الغابة الصغيرة المعروفة بـ «الخوّام» بجوار متنزّهها. واسم القصر، في ما قيل، مُقتبَسٌ من اسم أُسرة ألمانيّة عملت على استثمار الإمكانات السياحيّة للمدينة، فبنت فندقاً وسط الغابة، وآخر مُقابل خرائب قلعتها الشهيرة باسم «بالميرا». سقط «المشروع الألماني» في الحرب العالميّة عام 1914، لكنّ المُخطّطين أبوا إلا أن يُحيوا المشروع الأخير تحت الاسم الفضفاض «قصر الضيافة»، فيما بقيت بقية المشروعات حبراً على ورق حتى يومنا هذا، باستثناء «المدينة الرياضيّة» التي بُنيت بالفعل قبل مدة غير طويلة، ولكن بحجم ملعب كرة قدم!
سخاء التخطيط قابله بُخل مذهل في نِسَب الاستثمار في عقارات المدينة. إذ حُصرت استثمارات البناء بنسب ضئيلة، لا تتجاوز في أحسن الأحوال 30% من المساحة الإجمالية للعقارات التي لم يشملها المخطّط بمشروعاته الخيالية، بما يحول دون أدنى استثمار لها. هكذا، حوصرت الحركة العمرانية في بعلبك، بين تخطيطٍ عشوائي يحول دون استثمار مساحات واسعة في البناء - بحجّة أو بأُخرى من الحجج الكثيرة التي يوفّرها التخطيط - وبين نسبة استثمار ضئيلة في العقارات، بما يجعل من البناء عليها، وخصوصاً المؤسّسي، عمليةً خاسرة، أو على الأقل غير مُثمرة.
وتنبغي الإشارة هنا، بما من شأنه كشف المقاصد المشبوهة للتخطيط، أن عقارات قرية عين بورضاي المجاورة التي تتداخل عقاراتها مع عقارات بعلبك، والمملوكة لأُسر إقطاعيّة أبرزها آل سكاف، يسّر لها المخطّط التوجيهي الاستثمار بكل الوسائل، بما جنّبها سيف المشروعات العشوائيّة التي مزّقت بعلبك، فحظيت بنِسَب استثمار عالية تَصِل إلى 70% من المساحة الإجماليّة للعقار. هكذا، كثيراً ما نجدُ عقاراً تابعاً لمنطقة بعلبك العقاريّة محجورٌ عليه البناء بسبب نسبة الاستثمار الضئيلة، يجاوره آخر تابع لمنطقة عين بورضاي يتمتّع بنسبة استثمار ممتازة!
بالنتيجة، عالج الناس المغلوب على أمرهم المُعضلة بطريقتهم، فأقبلوا على شراء أراضي عين بورضاي، حتى باتت القرية التي كانت في الماضي القريب أملاكاً شاسعة شبه مهجورة، بلداً ناهضاً، وإلى جانبها المدينة الأم العريقة المُضطهَدة تعمّها الفوضى في كلّ بابٍ ومرفق. والأمر نفسه ينطبق أيضاً على بلدة دورس المجاورة أيضاً لبعلبك من جنوبها الغربي.
وبعدما استُغلق على أهالي بعلبك كلَّ بابٍ للعمارة القانونية في العقارات المملوكة لهم إرثاً عن أسلافهم، أو التي استملكوها بالشراء، أو يضعون أيديهم عليها، لم يتبقَّ لهم إلا أن يبنوا مساكنهم وغيرها بالطريقة الوحيدة الممكنة، أي من دون اكتراث بالقانون ومقتضياته وتصنيفاته، ما أدى
المطاف إلى قيام أحياءٍ بأكملها تفتقر إلى الصفة المدينية، محرومة من شبكات الكهرباء ومياه الشرب والخدمة والصرف، لحساب شبكات مُرتَجَلة وحُفَرٍ سطحيّةٍ للصرف الصحي، بما تنطوي عليه من أخطار صحيّة وبيئية.

حي الشيخ حبيب
«حي الشيخ حبيب»، أكبر أحياء بعلبك وأشدّها فاقةً وفقراً، أُنموذج وشاهد حيّ على العمل المنهجي لقطع الطريق على أي فرصة للنموّ العمراني والإنتاجي للمدينة.
بدأت نشأة الحي مطلع القرن العشرين بدءاً من أوّله المعروف اليوم، حيث كان سور المدينة الجنوبي وقصور آل حيدر الباهرة، عندما تدفّقت على هامش المدينة أُسر من مختلف النواحي (عكّار، كسروان، جبيل، بعض القرى المجاورة...)، مستفيدةً من شبه الفراغ السكاني للمدينة، بعد اجتياح فخر الدين المعني للمدينة وقضائه على إمارة آل الحرفوش الشعبية والنبيلة، وارتكابه مذابح مهولة بالسكان، وتهجير الباقين أحياء من أهلها الذين اتجهوا إلى جبل عامل.
مخطّطات توجيهية تمييزية أفضت إلى واقع فوضوي متعمّد


هكذا بدأت المدينة تنمو سريعاً وعشوائياً باتجاه شرقيّها، على جانبي الشارع، حتى بلغ طوله اليوم زهاء ثلاثة كيلومترات، أكثر أجزائه محرومٌ من أدنى شروط العيش الصحي للبشر. وقد سبق لكاتب هذه السطور أن عمل على تزويد أحد أحيائه بشبكة صرف صحّي، مستعيناً بأحد كبار المسؤولين في مجلس الإنماء والإعمار، وتمّ ذلك بعد مُمانعةٍ شديدة من الإدارة المحليّة المُمثّلة بقائمقام القضاء يومذاك، بحجة أنّ الحي كلّه «مُخالف».

الهرمل خارج الخريطة
كلّ ذلك في ما يعود إلى معضلة التنمية في مدينة بعلبك أولاً وخصوصاً، وثانياً وبالتبعية في سهل البقاع إجمالاً.
وها هنا باب ثالث للإحباط التمييزي الاستعماري المقصود، ميدانه هذه المرة مدينة الهرمل ومنطقتها، شمال شرق «الجمهورية اللبنانية»، بحسب آخر حدود لها.
والهرمل، اليوم، أحد قضائَي محافظة بعلبك - الهرمل، تبلغ مساحتها الإجمالية 136,4 كيلومتراً مربعاً، قسم كبير منها أرض جرداء وجرود صخرية، تتخلّلها بعض الوديان. والقسم القابل للزراعة منها شبه وادٍ يحيط بالمدينة، تبلغ مساحته نحو 15 كيلومتراً مربعاً تخميناً، لغياب أعمال المسح. وهذا الغياب هو أُسُّ بلائها.
الهرمل، وخصوصاً سهلها الواسع الخصيب، تتمتّع بمواصفات زراعيّة أُنموذجية تؤهّلها لأن تكوّن سلة غذاء لبنان، لغناها بمصادر المياه التي تكفي لريّها كلّها سيحاً من دون جهد، ولمُناخها المعتدل طول أيام السنة، وخصوصاً في فصل الشتاء، إذ تعلو 780 متراً فقط عن سطح البحر، فلا ينالها الصقيع الذي لا تنجو منه أي بقعة سواها من سهل البقاع كله. ومع ذلك، فإن هذه المواصفات الزراعية الممتازة معطّلة تماماً.

وُضع «المخطّط التوجيهي» لبعلبك في الأربعينيات ولا يزال معمولاً به خلافا للقانون بعد 25 سنة على إقراره من دون تنفيذه


كُتب الكثير عن «إهمال» المدينة وسهلها. هكذا، «إهمال» فقط، من دون تحديد، مع أن الحقيقة، غير الخفيّة على العارف، أن المعضلة تتجاوز الإهمال إلى ما لا ريب في أنّه، في أساسه، من باب العمل الإحباطي المقصود الذي يتجاوز بمفعوله ومراميه كل ما أشرنا إليه من موانع متعمّدة للتنمية في سهل البقاع إجمالاً، كيما تحول دون نموّه وتنميته السّويّة حاضراً ومستقبلاً. فغدا الأمر، في ما يخصُّ سهل الهرمل، أمراً واقعاً لا يسأل أحدٌ عن أسبابه، ولا يُقلق أحداً ممن من شأنهم أو مُهمّتهم معالجته، فكأنه قدر مقدور، لا نملك نحوه سوى التسليم.
أثناء إشغالي منصب القضاء الشرعي في المنطقة، بانت لي عرَضاً، ضمن معالجة حالاتٍ فردية، ظاهرةٌ غريبة، خلاصتها أن هناك أغنياء في أيديهم مئات وثائق الملكية (الطابو) بحصص ضئيلة من الأراضي يصل مجموعها إلى مئات الدونمات، لكنهم فقراء عملياً إذ يحظر عليهم استثمارها، لا لسبب إلا لأنهم لا يعرفون أين هي! وبان لي، بالتتبع، أنّ هذه الحال العجيبة هي شأن كثيرين جداً من أهل المنطقة. وكثيراً ما اطلعتُ على أكداس كبيرة من وثائق الطابو، تثبت ملكية أصحابها الفقراء لأسهم كثيرة ضئيلة جداً من العقارات، يحتفظون بها أملاً بأن يأتي يوم يجري فيه ما يُسمى بـ «التّجميل»، بحيث تؤول الحصص الضئيلة إلى حصّة أو حصص قابلة للاستثمار.

كيف بدأت هذه الحالة في هذه المنطقة بالذات، ولأيّ غرض؟
بالعودة إلى مصادر جمّة ذات علاقة بقضيّة مسح الأراضي في لبنان وتاريخها، يتبيّن أن سلطات الانتداب الفرنسي أولت هذا العمل اهتماماً خاصاً. فقد أجرت مسحاً شبه شامل لكل الأراضي والعقارات، لم تشمل - حسب المصادر نفسها - مناطق غير معمورة في شمال لبنان، لكن من دون أن تأتي على ذكر سهل الهرمل ضمن ما تجاهلته من أعمال المسح، رغم ما له من إمكانات عظيمة. وتشير هذه المصادر إلى أن قضيّة مسح الأراضي التي أهملتها سلطات الانتداب في الشمال هي موضع اهتمام الدولة التي لحظت في ميزانية عام 1922 بنداً متعلّقاً بأعمال المسح فيها، وكلّفت شركة مساحة بذلك.
نخلص من هذا السرد لتاريخ المعضلة إلى نتائج، نلخّصها في ما يأتي:
- الأولى: أن غياب المسح عن سهل الهرمل يرقى أصله إلى فترة الانتداب لأسبابٍ باتت معروفة مما سبق ذكره.
- الثانية: استمر هذا الغياب طوال قرن على أيدي الحكومات المُتعاقبة.
- الثالثة: أن هذا الوضع السيئ تفاقم طوال هذه المدّة بمزيد من تفتيت الملكيّات بالتوارث لتنتهي إلى ما هي عليه اليوم من تعطيل للإمكانات العظيمة للسهل كله، دونما أدنى أمل أو اهتمام بالعمل على تصحيح ما يمكن تصحيحه منها.
مما لا ريب فيه أن المسؤول الأساسي عن كل هذه الجرائم الموصوفة هي سلطات الانتداب التي عملت ما في وسعها لتعطيل وكبح أي إمكانيّة للنمو والتنمية، سوى لقلة عملت على العناية التامّة بمناطقها وتجاهل غيرها. والمسؤول، بالدرجة الثانية، هي الحكومات المتعاقبة التي تابعت، بقصد أو من دونه، سياسة التعامي عن الوضع الإفقاري لمنطقةٍ من الوطن، إلى درجة حرمان الوطن كله من ثروةٍ جاهزة للاستثمار بأقل جهد، وخصوصاً في سهل الهرمل وإمكاناته الفريدة. والمسؤول، بالدرجة الثالثة، هو كلّ من سكتوا ويسكتون على هذه الأوضاع الشّاذّة، ممن شغلوا مواقع تمثيليّة أو مسؤولة.
يبقى السؤال عن كيفية العمل لإصلاح ما فسد. وهذا نتركه لأهل الاختصاص من سياسيين وفنيين. لكنّنا نرى أن الحلّ الحقيقي المنشود يقتضي قوانين استثنائية، تُسندها توجيهاً ورعايةً السلطات المحليّة المتمثلة ببلديات المنطقة.

* مؤرخ لبناني

الدولة تعلّم على الحرام!
مأساة بعلبك وما انطوت عليه من ذهنيّةٍ تمييزيةٍ صريحة، لم تقتصر على المدينة وجوارها القريب فقط، بل شملت قرى وبلدات سهل البقاع كله. وهنا قصّة طريفة تستحق أن تُروى بشيءٍ من التفصيل.
عام 1977 صدر مرسوم بإنشاء شركة مغفلة باسم «مصرف الإسكان» لإقراض الناس مبالغ ماليّة بفوائد مقبولة لبناء مساكن، بضمانة استرهان العقار المُزمع البناء عليه لمصلحة المصرف، حتى تسديد القرض وفوائده. استُقبل هذا الأمر غير المسبوق بسرور، وطفق الناس، وخصوصاً غير الميسورين منهم، يتقدمون من المصرف بطلبات إقراض، مُرفقَة بوثيقة ملكيّة العقار لبناء المسكن العتيد عليه، والذي سيكون ضمانة المصرف. لكنّ الاستبشار سرعان ما انقلب إلى عكسه. إذ تكشّف لقطاعٍ كبيرٍ من سكان قرى السهل وبلداته ما كان مستوراً عليهم، وهو أن العقارات في السهل إجمالاً نوعان:
- أراض تملكها قلة محظوظة، وهي مخطّطة ومُفرزَة وذات نِسَب استثمار جيّدة تسمح بالبناء عليها.
- بقية الأراضي، وهي القسم الأكبر، محرومة من أي شكل من أشكال التنظيم، وكثيرا ما يكون التملّك فيها بصفة أسهم شائعة في أفضل الأحوال، وقد تقتصر على ما يُسمّى «حُجّة»، أي ورقة موقعة من شهود أو من مختار البلد. وما من ريبٍ في أن هذا الوضع البالغ السوء هو من نتائج إهمالها المقصود منذ بداية التخطيطات التمييزيّة التي ارتكبتها سلطة الاستعمار الفرنسي.
بالطبع، قبل مصرفُ الإسكان طلبات النوع الأول ومنحها القروض المطلوبة، فيما رفض الثانية عن حقّ. وقد أثار اكتشاف هذا التمييز الظالم في حينه ضجةً عالية تزعّمها أحد السياسيين المحليين، لكنها لم تؤدّ إلى نتيجة كما هو متوقّع، وطبعاً لم تنتهِ إلى الحل الوحيد الصحيح الممكن، وهو العمل على تخطيط القرى البائسة عقارياً وتحديدها وتجميلها، مع تزويدها بنِسَب استثمار مناسبة وعادلة.
لكنّ المحرومين من نعمة المصرف سرعان ما اكتشفوا حلّاً ذكياً وبسيطاً لمعضلتهم، بأن طفقوا يشترون عقارات في القرى المخطّطة شبه المهجورة بأثمان بخسة، وسط دهشة أهلها، وربما سرورهم البالغ بهذه النعمة، ليتقدّم المالكون الجدد بهذه العقارات المكتملة الأوصاف إلى المصرف للحصول على القروض المطلوبة، لكن لا ليبنوا مساكنهم على الأرض المرهونة للمصرف، بل في قراهم، ومن ثم امتنعوا عن تسديد الأقساط تاركين للمصرف العقارات المرهونة التي لا قيمة لها بالنسبة إليهم، بعدما حصلوا على بغيتهم منها، فضلاً عن قيمتها البخسة بذاتها. وهكذا دفع المصرف ثمن خطيئة وغائلة وخطأ التخطيط الفرنسي الظالم، من دون أن يكون له أي يد فيها.