عن قصد، قرّرت الحكومة ترك القطاع العام و«داتا» اللبنانيين فيه عرضةً للنهب متنازلةً عن سيادتها، هي تعلم تماماً أنّ غالبية الواهبين يضعون شروطاً على استخدام هباتهم، لا سيّما المنظمات الدولية. على سبيل المثال الدولة الألمانية لا تقدّم شيئاً إلا إذا كان استخدامه الأخير يستفيد منه النازح السوري في لبنان، على قاعدة «المجتمعات المضيفة». ومن الهبات التي تصنّف في هذا الإطار أيضاً، تلك التي حصلت عليها مديرية التعليم العالي بوصفها «هبة نقدية مشروطة بإرادة الواهب» مقدّمة من وزارة التربية العراقية، إنما من دون ذكر تفاصيل الهبة ولا قيمتها.
يتبيّن من رصد الهبات أنّ هناك تركيزاً على أنظمة المكننة
ومن الهبات التي لا تمرّ في القنوات الرسمية، قيام رئيسة إحدى الدوائر بإخبار المراجعين عبر تطبيق «الواتسآب» بنفاذ محبرة الطابعة. ولحساسية عمل هذه الدائرة، أغدقت الشركات الخاصة التي تتعلّق أعمالها بها عليها بـ«مواعين ورق والمحابر» لتسيير أعمالها، حيث يحضر مندوبو الشركات المراجعة حاملين صناديق الورق. وفي هذه الدائرة ذاتها، قامت إحدى الشركات بتركيب أجهزة تكييف نقالة في كلّ مكاتب الموظفين الحكوميين. في بعض الدوائر، كانت الرشى هي الهبة التي يحصل عليها الموظفون مقابل حضورهم إلى العمل وإنجاز بعض المعاملات، لأنّ المسألة باتت متصلةً بالرواتب الزهيدة التي يتقاضونها، أو بأنهم يحتاجون إلى الانتقال والكهرباء... أيضاً ثمة هبات عبارة عن رواتب حصل عليها القطاع العسكري من الولايات المتحدة الأميركية ومن قطر، وليس واضحاً إذا كانت هناك هبات مماثلة، لأن جميعها لم تدخل عبر القنوات الرسمية، بل فتحت فيها حسابات مباشرة في مصرف لبنان يصرف منها القيّمون على الإدارات المعنية فقط.
يتبيّن من رصد الهبات أنّ هناك تركيزاً واضحاً على أنظمة المكننة في الوزارات التي يتيح الدخول إليها سيطرةً كاملةً على حركة الموظفين. ففي وزارة التربية مثلاً، قدّم البنك الدولي 136 مليون دولار، بشرط تشغيل برنامج «سيمز» الواقع تحت السيطرة الكاملة للجهات المانحة عبر موظفيها العاملين في الوزارة، بالإضافة إلى المسؤول عن ربط المدارس بالوزارة التي تتم عبره مراقبة دوامات الأساتذة والعاملين الإداريين والمعلومات الشخصية الخاصة بهم وبالتلامذة. ومنذ مدّة قليلة، خضعت وزارة التربية لطلب اليونيسيف، وفتحت أبواب مدارسها أمام شركة تدقيق أردنية لمراجعة المعلومات الشخصية الخاصة بالأساتذة.
365 مليون دولار فقط
أعدّت لجنة المال والموازنة عشية مناقشة موازنة عام 2024 تقريراً عن الهبات. ورد في التقرير أن اللجنة طلبت من وزارة المال تزويدها بالهبات المسجّلة في الخزينة بين 2018 و2023. ردّت المالية بلائحة تشير إلى احتساب 79 هبة، بينما «ما يعود إلى هذه المدّة هو 19 هبة فقط، والباقي يعود إلى المدة ما بين 2011 و2017». وبلغت قيمة الهبات المسجّلة في حساب الخزينة للمدّة المذكورة، أي منذ 2011 حتى نهاية 2023، نحو 365 مليون دولار. الرقم المتدني يعود بحسب لجنة المال والموازنة إلى أن الجهة التي تقبل الهبة تفتح حساباً خاصاً بها في مصرف لبنان، ما يؤدي إلى «تعدّد الحسابات وخرق مبدأَي وحدة الصندوق ووحدة المحاسبة، ويحول دون توحيد هذه الحسابات سنوياً»، فضلاً عن أن «إنفاق الهبة بواسطة سلفة موازنة طارئة، يخرجها عن الرقابة المسبقة، سواء من قبل مراقب عقد النفقات، أو ديوان المحاسبة».