منذ تشكيل لجنة تعديل قانون النقد والتسليف، كانت أسباب الفشل كامنة فيها. إذ إن غالبية أعضائها خارج أي اختصاص في رسم السياسات المالية والنقدية. لكن المشكلة الأساسية تكمن في أن هذا الغياب مرتبط بالقيود التي حدّدها ميقاتي لعمل اللجنة. وهذه القيود تعني أنه لا توجد نوايا من أجل تطوير حقيقي في قانون النقد والتسليف حتى لا يكون في خدمة طائفة، كما هو حال صلاحيات الحاكم المطلقة، أو في خدمة المصارف كما هو الآن. فبحسب ما يرد في كتاب الباحث هشام صفي الدين (دولة المصارف)، إن إقرار هذا القانون في عام 1963 سبقته ضغوط من جمعية المصارف لتتناسب بنوده مع مصالحها، إذ إن الجمعية تأسّست قبل مصرف لبنان بأربع سنوات بهدف «مواجهة تنظيم الدولة للقطاع والنشاط النقابي لعمال المصارف»، وجعلت نفسها شريكاً للمصرف المركزي في تنظيم القطاع المصرفي، وهذا ما بدا واضحاً في نصّ المادة 174 التي تقضي باستطلاع رأي الجمعية قبل وضع التنظيمات الضرورية لتأمين حسن علاقة المصارف بمودعيها.وفي إطار الرؤية الضيّقة نفسها التي حدّدها ميقاتي، تبيّن أنه عيّن مستشاره نقولا نحّاس «ناظراً» على اللجنة ووصياً على أعمالها وعلى أعضائها. يصفه أحد الأعضاء بأنه «غازي كنعان» الذي يفرض تعديل الآراء على اللجنة. وفي النتيجة اقترحت اللجنة بعض التعديلات «لكنها ليست المطلوبة لإصلاح القانون» بحسب أوساط مطلعة. فالاجتماعات حوصرت بفكرة مفادها: «الوقت ليس مناسباً لتعديل جذري على القانون، بل للترقيع، إذ لا يمكن وضع قانون مثالي في الظروف الحالية مع الحرب الدائرة في غزة، والفراغ الدستوري في البلاد».
وخلال اجتماعات اللجنة، لم يفارق شبح الحاكم السابق للمركزي رياض سلامة، طاولة البحث. أصلاً، إن كل التعديلات كانت مهجوسة بفكرة تقوم على منع «خلق» رياض سلامة جديد. وصعوبة الأمر أنه ممنوع المسّ بصلاحيات الحاكم المخصّصة لطائفة الموارنة، ويتعزّز الأمر بوجود قانون مضى عليه أكثر من 60 عاماً. فهو قانون «مليء بالأخطاء الجسيمة التي ستبقى من دون تعديل، إذ يجعل من حاكم المصرف إلهاً منزّهاً عن المحاسبة، ويعطيه صلاحيات غير موجودة حتى لدى رئيس الحكومة ومجلس الوزراء مجتمعاً، فهو الآمر الناهي في ما يتعلّق بمصرف لبنان إدارياً، يعيّن ويقيل الموظفين، يستحدث الدوائر أو يلغيها، بحسب المادة 26. وفي نفس الوقت يجمع بين يديه صلاحيات أقرب ما تكون إلى الملكيّة. وبموجب مواد قانون النقد والتسليف، حاكم مصرف لبنان هو رئيس المجلس المركزي، ورئيس الهيئة المصرفية العليا، والأخيرة هي هيئة قضائية على علاقة بالمصارف المتعثّرة، ما يجعل البتّ بمصير المصارف بيد الحاكم فقط. كما أنّه رئيس هيئة التحقيق الخاصة، ورئيس الأسواق المالية. وهو يهيمن إدارياً ومالياً على لجنة الرقابة على المصارف»، تقول الأوساط.
كان يفترض أن تكون لجنة الرقابة على المصارف مستقلّة عن المركزي، «لكن لولا ارتباطها العضوي بالحاكم لربما ما وصلنا إلى مشهد الانهيار الحالي» وفقاً للأوساط. فتقارير لجنة الرقابة لا تُرسل إلا إلى الحاكم، وهو وحده يقرّر التحفظ عليها أو إطلاع أعضاء المجلس المركزي عليها. ووصل تحكّم الحاكم بقرار اللجنة، إلى درجة أن رئيساً سابقاً للجنة كان يهمس بأن «رياض سلامة أهدر 70 ملياراً من أموال المودعين، لكنّه لم يتدخل ولو في محاولة لمنع التدهور، إذ كان بإمكانه التدخل ومنع المصارف من وضع دولاراتها بشكل كامل في المركزي وتحت تصرفه».
امتناع ميقاتي عن المسّ بصلاحيات حاكم مصرف لبنان بحجة «الحساسيات الطائفية»، سيؤدي إلى إبقاء مواد إشكالية، وأخرى لم تطبق طوال 60 عاماً داخل قانون النقد والتسليف. فعلى سبيل المثال، المادة 70 تحدّد دوراً مطاطاً واستنسابياً لمصرف لبنان بلا أي تفاصيل: «المحافظة على سلامة النقد، أو الاستقرار الاقتصادي». وهناك المادة 71 التي يفترض أن تنظّم علاقة المركزي بالحكومة، إذ جعلته متعاوناً مع مجلس الوزراء ومستشاراً مالياً لها، كأنّ كلّ طرف منهما، أي الحكومة والمركزي، في جزيرة منفصلة عن الأخرى. والمادة 117 التي تلزم الحاكم بتقديم ميزانية سنوية لوزير المالية، ونشر بيان وضعي بالأرباح والخسائر كل 15 يوماً، فغير مطبّقة على الإطلاق.
أمام هذه التعقيدات اقترحت لجنة تعديل قانون النقد والتسليف أنصاف الحلول. منها، تعزيز صلاحيات المجلس المركزي لإجبار الحاكم على إصدار التعاميم بناء على قرارات المجلس من دون التفرّد بها، إذ كان الحاكم لا يأخذ برأي أعضاء المجلس المركزي، وفقاً لكلام نوابه. وطرحت فكرة تأسيس هيئة رقابة داخل المصرف ترتبط بالمجلس المركزي ووزير المالية وبمفوّض الحكومة.
القانون مليء بالأخطاء الجسيمة التي ستبقى من دون تعديل إذ يجعل من حاكم المصرف إلهاً منزّهاً عن المحاسبة


من جهة ثانية اقترح تعديل المادة 91 التي تنظم عملية اقتراض الدولة من المصرف. فاقترحت إضافة شرطين، أن يكون الإقراض بالليرة اللبنانية بشكل أساسي، وفي حال طلبت الحكومة إقراضها بالدولار تشترط موافقة مجلس النواب على الطلب، وعدم تخطي سقف معيّن، لتصعيب العملية، على أن يموّل القرض من رأس مال المصرف المركزي حصراً. وفي استعادة لتجربة الحاكم السابق إدمون نعيم، رأت اللجنة أنّ المادة 91 لا تعني التنفيذ التلقائي لطلب الحكومة بالاقتراض. ففي مدة ولاية رياض سلامة، كان الأخير يبتّ بالطلبات مباشرةً بلا مراجعة أحد، بينما كان نعيم يرفض فكرة تمويل الدولة، ويدرس الطلبات كلّاً على حدة. هذه الاستنسابية التي مورست بأكثر من طريقة، كان مسكونة بطموح الوصول إلى رئاسة الجمهورية، وهو ما أدّى إلى عرقلة التمويل لمن يصنّفون منافسين.
التقت اللجنة مع مطالب صندوق النقد الدولي بإلغاء المادتين 115 و116 من قانون النقد والتسليف. هاتان المادتان تسمحان بتوزيع الأرباح الدفترية الناتجة من فروقات أسعار الذهب لدى مصرف لبنان. الذهب الموجود في خزائن المصرف مسجل بقيمة 85 ليرة لكلّ سبيكة، وكلّما تغيّرت قيمة العملة يتكون بالتالي ربح دفتري، يقال إن توزيعه متاح تطبيقاً للمادة 116. سابقاً، طلب وزير المالية كميل شمعون من الحاكم إدمون نعيم تحويل الأرباح لمصلحة الخزينة، وعندما رفض نعيم ادعى عليه شمعون في مجلس شورى الدولة، فأصدر الأخير قراراً يقضي بـ«إعطاء المال للخزينة»، ولكنّه أوصى بـ«ضرورة تغيير النص». ومنذ ذلك الحين لم تحوّل الأرباح الدفترية إلى الخزينة، إلا ثلاث مرات في عهد الحريرية.



تعديل بلا رؤية
عندما التقى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، أعضاء اللجنة المكلفة بتعديل قانون النقد والتسليف سألهم: «من سنعيّن في كلّ موقع إذا جرى توزيع صلاحيات الحاكم والهيئات التي يرأسها؟». في هذا السياق، جاءت توجّهات اللجنة التي أسقطت من حساباتها رسم رؤية للمصرف المركزي، وتنظيم علاقته بالدولة، وإعادة تشكيل النظام المصرفي في ضوء الوضع الاقتصادي الحقيقي للبلاد، لا الوظيفة التي ضغطت المصارف تاريخياً للقيام بها، وهي إدارة الأموال من دون مشاركة فاعلة في الاقتصاد وتحفيز الإنتاج.