في السنوات الاخيرة، كانت الحجة الدائمة لعدم السير بتوجهات وخطط اقتصادية ذات مغزى أن قوى السوق كافية لتدلنا على الطريق، فتنتفي الحاجة إلى التخطيط. لكن التجارب أثبتت عكس ذلك، وأصبح «التحفيز» الاقتصادي، «لعدم جواز كلمة دعم»، هو الطريق الى النمو.
السؤال الملحّ الذي يُطرح اليوم هو مَن المسؤول الاكبر عن الهجرة الكثيفة والخطيرة من لبنان؟ هل هو التدهور الامني وداعش، أي التكفير، أم هو الوضع الاقتصادي وعدم القدرة على استيعاب الوافدين الجدد إلى سوق العمل؟ لا قدرة للدولة على توجيه الشباب المتخرجين نحو فرص جديدة عبر «تقديس» فرص الانتاج وليس فرص العمل؛ والفرق شاسع بين الاثنين، ففرص الانتاج هي تلك التي لا تشكل عبئاً على المجتمع، حيث يكون العائد على الاقتصاد أضعاف ما يقبضه الموظف. استوقفني تقرير نشرته Bloomberg عن أفضل المدن التي يرغب الانسان العيش والعمل فيها، فأتت لندن ونيويورك وفانكوفر في المقدمة. بحسب التقرير، لدى نسبة عالية جداً من الشباب الفرنسيين الرغبة في الهجرة والعمل خارج فرنسا، والرغبة تلك غير مرتبطة طبعاً بداعش والتهديد الامني، بل بفرص العمل ومستوى الأجر وإمكان تأسيس شركات جديدة، أي هي مرتبطة بكل بساطة بتوافر فرص الانتاج.
رفض حماية الصناعات عبر فرض رسوم جمركية

أصبحت ظاهرة عدم الاكتراث بالشأن الاقتصادي عامة، فابتعدت كافة التكتلات السياسية عن محاولة ايجاد مخرج للتدهور الاقتصادي، وغلبت السياسة حتى على تيار المستقبل الذي كان يتباهى بأنه المختص بالشؤون الاقتصادية. لا بد من لفت النظر وإعادة التذكير بإيلاء الاهتمام إلى الشأن الاقتصادي قبل أن نصل الى الأسوأ. فحتى لو سيطرنا على كل الحركات التكفيرية، سنستيقظ لنرى أننا خسرنا كل طاقاتنا الشبابية وفرص إنتاجنا. والأسوأ أننا لم نعد نرى دراسات جدية عن حجم هجرة الشباب خاصة. من الواضح أن لبنان لم يستطع أن يؤمن فرص إنتاج جديدة تُذكر، عدا ما تم فرضه على القطاع العام، ومن المعروف أن الأخير يستطيع أن يعمل بفعالية أكبر إذا تم ترشيقه (حتى الرئيس السنيورة لم يعد يستعمل هذه الكلمة) واعتماد التحفيز وإعادة النظر في كل الاجراءات المعتمدة. لا بد من لفت النظر إلى مشهد القطاعين السياحي والصناعي في السنوات الاخيرة. شهد قطاع السياحة المرتبط عضوياً بالأمن مأساة واضحة للجميع، أما الصناعة فضاعفت صادراتها، ولكن مجمل الصادرات انخفض بحوالى 17% سنة 2014 مقارنة مع 2013. ماذا تفعل الدولة إزاء ذلك؟
يستطيع القطاع الصناعي أن ينمو في ظل أوضاع أمنية صعبة وغير مستقرة، إلا أنه بقي يتيماً، من دون محاولات جدية لإنعاشه؛ فلا صندوق تكافئياً لصناعات الطاقة المكثفة، ولم تتم معالجة أكلاف الشحن المرتفعة. غير صحيح على الإطلاق أن الشحن البحري أمّن أسعاراً معقولة، فكيف ذلك وما زالت كلفة وضع مستوعب 40 قدماً على ظهر باخرة 800$، وأصبح معدل كلفة نقل المستوعب 40 قدماً بحراً أو بالشاحنة براً إلى الخليج ضعف ما كانت عليه قبل الحرب السورية؟ لم تتم حماية الانتاج الوطني بأي شكل من الاشكال، بالرغم من اقتناع الجميع بأن دول الخليج تقوم بدعم صناعتها بطريقة تخالف مبادئ التجارة الحرة وقوانين منظمة التجارة العربية، وما زالت العوائق الادارية للتصدير على ما هي عليه. وأشدد على أن هذه الحكومة وسابقتها لم تجتمع للتأكد من إزالة العصي من دواليب الانتاج الوطني. ورغم المحاولات الحثيثة لإيجاد مصادر تمويل للسلسلة، استمر الرفض القاطع لحماية بعض الصناعات المهددة عبر فرض رسوم جمركية. لم يُتعامل بالجدية المطلوبة حتى مع زيادة الصادرات الصناعية، التي أعطت إشارة واضحة على أهمية ومناعة القطاع الصناعي، ولم يكن ثمة اهتمام بالحفاظ على هذا المنحى التصاعدي وتأمين أسباب استمراره.
لم تحصل كذلك أي محاولة جدية لإنعاش القطاع السياحي، وما زلنا متمسكين بنظرية أن السائح الطبيعي في لبنان هو السائح الثري، ولا نرى مشكلة في ارتفاع أسعار بطاقات السفر في ظل الاوضاع الأمنية الراهنة. لا أقول إن ارتفاع سعر بطاقة السفر هو السبب الرئيسي لتراجع السياحة، ولا أودّ كيل الاتهامات أو ادّعاء البطولات، لكن التحليل واستدراك الامور باتا حاجة اليوم.
بصراحة، إن تردّي الاوضاع الاقتصادية هو المسؤول المباشر عن زيادة الهجرة من لبنان، وزيادة هجرة الشباب هي المؤشر الاساسي على انحدارنا الاقتصادي السريع. يجب رفع راية الخطر اليوم وعدم التلطي وراء الخطر الداعشي، وينبغي الدعوة الى مؤتمر أو خلوة اقتصادية طارئة تضم كل التكتلات السياسية والوزراء أصحاب القرار، وذلك لوضع الخطط الاساسية لإنقاذ اقتصادنا، وبالتالي شبابنا، وللخروج بتوجه اقتصادي جديد يزيل كل المعوقات من أمام الصادرات ويحمي المصدّر. يجب إعفاء الصادرات كلياً من الضرائب، وإعادة النظر في دعم إيدال للصادرات الزراعية، واستعمال هذا المال لتسيير عبارة تنقل الشاحنات اللبنانية الى مصر من دون مقابل، ومنها الى الخليج العربي، فتعود كلفة الصادرات مقبولة. اما بالنسبة إلى الاستيراد، فأذكّر بأن كلفة تخليص طن المواد الاولية الآتية من الخليج كانت 7 دولارات على المعابر البرية، فصارت تبلغ 70 دولاراً عبر مرفأ بيروت! يجب إعفاء المواد الاولية المستوردة من كل الضرائب. نعم لدفع الكلفة الحقيقية، ولكن كل الخدمات يجب أن تُسَعّر بأسعار تنافسية من أجل زيادة الصادرات.
من الطبيعي أن تختلف التكتلات السياسية حول المعالجة الامنية أو غيرها من الامور السياسية، لكن الامور الاقتصادية جامعة لا خلاف عليها، وبالتالي يجب على المؤتمر أن يخرج بتوافق على الامور الاقتصادية الاساسية، فنحن أمام مرحلة مصيرية تتعلق بمستقبل شبابنا وقدرتنا على التنافس والاستمرار اقتصادياً في هذه المنطقة.
* صناعي، وزير ورئيس جمعية الصناعيين سابقاً