كسرت أسعار النفط الخام الحاجز النفسي وتراجعت الى ما دون عتبة الـ60 دولاراً للبرميل الواحد. من الواضح أن التدهور الحاصل قد لا يقف عند أي حدود دنيا، أقله على المدى المنظور. إنه سباق نحو الهاوية بما للكلمة من معنى. سباق تخوضه المجموعة التي خرجت منتصرة من اجتماع أوبك الأخير في 27 نوفمبر الماضي. انتصار لا يزال يعبّر عنه بالكثير من الغبطة في الأحاديث والدردشات الصحافية.
هذا ما يستمر وزير النفط السعودي بالاشارة إليه في أحاديثه؛ حيث صرّح مؤخراً في معرض ردّه على أسئلة الصحافيين، على هامش مؤتمر عالمي حول التغيّر المناخي المنعقد حالياً في ليما البيرو، قائلاً «لماذا نحدّ من إنتاج النفط؟ لماذا؟ فلندع السوق يحدد ثمن السلع المتداولة. فلنترك للسوق مهمة تحديد سعر النفط».
بعيداً عن نشوة المنتصر، لا بد من التساؤل حول المصلحة الحقيقية في استمرار استعار هذا السباق. أسواق المال الخليجية اتّشحت باللون الأحمر الذي لم يغادر الشاشات التي حملت أخبار الخسائر القاسية والموجعة. تشير البيانات المتوافرة التي تنشر عبر وسائل الاعلام الخليجية الى حالة من «الرعب» تصيب المستثمرين الخليجيين الذين يقفون حائرين وهم يشاهدون إنجازات عام تتبخر في فترة لا تتعدى شهراً واحداً. ففي اليوم الاول من كانون الاول، بلغت خسائر أسواق الاسهم الخليجية حوالى 45 مليار دولار من القيمة السوقية، لتسجل الخسائر الأعلى في السوق السعودية حوالى 26 مليار دولار بحسب جريدة «الاقتصادية» السعودية. ولم تسلم أي من الأسواق المالية لدول مجلس التعاون من هذه الخسائر. ومع التراجع الأخير الى ما دون 60 دولاراً للبرميل الواحد، عنونت النشرة الاقتصادية لقناة العربية بأن الخسائر القاسية «تلتهم أرباح الاسواق الخليجية خلال العام»، حتى إن بعض التقديرات وصلت الى حدود الحديث عن أن قيمة الخسائر التي منيت بها الاسواق الخليجية في قيمتها السوقية منذ اندلاع أزمة أسعار النفط تصل الى حدود 100 مليار دولار.
لن تتوقّف الخسائر عند القيمة السوقيّة للأسهم

بالتأكيد لن تتوقف الخسائر عند القيمة السوقية للأسهم، بل ستطال إجمالي الموارد الفعلية للحكومات الخليجية التي ستتحمل العبء الأكبر من التراجع في حجم العوائد النفطية. هذا ما سيترك أثره على حزمة سياسات التحفيز الاقتصادي والإنفاق الاجتماعي الريعي المتضخم، الذي اعتمدته هذه الدول خلال الأعوام الأربعة الماضية في محاولتها لاستيعاب احتمالات انتقال حمى الانتفاضات الشعبية إليها، والتي وصلت كلفتها الى أرقام قياسية. نحن هنا نتحدث عن بلاد يبلغ فيها إجمالي العوائد الضريبية صفراً، فقط لا غير!
مما لا شك فيه أن الدول الخليجية تمتلك مناعة مالية كافية لتعويض التراجعات الكبيرة في حجم الواردات، إلا أنها بالتأكيد لن تتمكن من الاستمرار في تحمّل هذه الأعباء على المدى الطويل، خاصة إذا دخلت «أوبك» ومعها العالم كله الى مرحلة جديدة من أسعار متدنية بشكل مفتعل ومترافق مع ركود الاقتصاد العالمي. هذا ما حفز الحديث في أوساط الخبراء عن أن السوق العالمية لن تتحمل مساراً انحدارياً في الاسعار لأكثر من نيسان 2015، كذلك فإنه يمكن الذهاب الى التساؤل عن مستقبل «أوبك» نفسها!
أما الحديث عن لجوء هذه الدول الى محافظها من العملات الأجنبية واستثماراتها الخارجية، فلا بد من سحبه من الإطار التبسيطي الذي يضعه فيه بعض المنتشين «بالانتصار» الذي تم تحقيقه. فتراهم يتحدثون عن محافظ استثمارية بمئات المليارات من الدولارات، مرتكزين على مفهوم «القجة». وكأن هذه الأموال هي موجودة تحت بلاطة ما أو في «صندوق فرجة» يمكن التحكم فيها بسهولة ومرونة مطلقة. السؤال الذي يجب طرحه، كم من هذه الاحتياطات قابل للتداول المباشر في الاسواق الداخلية للدول الخليجية وغير مستثمر على شكل سندات خزينة أو شهادات إيداع في مختلف أنحاء العالم. التحدث عن المحفظات الاستثمارية للدول والاحتياطات يبقى منقوصاً إذا ما أخذت بعين الاعتبار المقدرة على التحكم في هذه الاحتياطات.
في المقلب الآخر، كان الرد الإيراني مباشراً. وصّف روحاني ما يحصل بأنه مؤامرة على إيران، ملمّحاً إلى أنه جزء من لعبة ليّ الأذرع التي تتكامل مع الضغوطات الاقتصادية والسياسية التي تستهدف التأثير في الموقع التفاوضي لإيران في الجولة المقبلة من المحادثات النووية. حمل كلام روحاني رسائل متعددة حول الحاجة الى الاستثمار في المكوّن غير النفطي للاقتصاد الإيراني. يمكن اعتبار هذه الرسائل في خانة الاستهلاك الداخلي وتحسين معنويات العموم أمام الضغوط التي ستواجهها البلاد في المرحلة القادمة. إلا أن الرسالة المباشرة التي حملتها حكومة روحاني، غير المحسوبة على المتشددين، هي زيادة الإنفاق العسكري بحوالى 30% في الموازنة الإيرانية الجديدة. بالتأكيد إن هذه الأموال لن تذهب لتمويل مشاريع التنمية المستدامة واللقاءات الحوارية والنقاشات الفلسفية. يراهن البعض على تباين بين الثنائي روحاني – ظريف من جهة ومعسكر المتشددين من جهة أخرى. إلا أن هذه المراهنات تتناسى أن البرنامج النووي الايراني بلغ أوجه في عهد الرئيس خاتمي، أكثر الشخصيات الايرانية انفتاحاً ودعوة إلى الإصلاح، وأن الرئيس روحاني نفسه كان كبير المفاوضين في هذه الفترة، كما أنه كان سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي لـ16 عاماً متواصلة.
كثيرة هي الرهانات، إلا أن أخطرها هو ذلك الذي يخطئ بين طاولة للتفاوض وأخرى للاستسلام. المأزق الذي نواجهه في المنطقة هو السطوة التي تحظى بها هذه الخيارات في كلا المعسكرين. على ما يبدو، إنها الحرب! حرب أسعار النفط، التي لا يوجد أي ضامن لما قد تكون انعكاساتها على السوق العالمية بشكل عام وعلى منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص. هذا الشرق الأوسط الذي قد تذهب بلاد الشام فيه حطباً لموقد ترقص من حوله القوى الإقليمية.