من سامي الصلح إلى ميشال ضومط ثلاثة وعشرون عاماً كانت فيها وزارة التصميم العام جزءاً لا يتجزأ من الحكومات المتعاقبة. ولمن لا يعرف، فإن وزارة التصميم العام من حيث الشكل هي وزارة مثلها مثل كل الوزارات على طاولة المجلس، لكن أهميتها تكمن في المسؤولية التي تقع على عاتقها: التنسيق بين كل الوزارات والاطلاع على مشاريعها كافة من منطلق مهماتها الاستشارية، التوجيهية والتنفيذية. ولعل أشهر الوزراء السياسيين الذين تولوا هذه الحقيبة هو موريس الجميل، ودخل من بابها إلى عالم السياسة آنذاك المحامي فؤاد بطرس، ولا ننسى طبعاً التكنوقراطي جوزيف نجار، إضافة إلى مجموعة كبيرة من الأسماء الذين شرّف وجودهم هذه الوزارة. من المفترض أن تكون وزارة التصميم العام، أمّ الوزارات ودينامو الحكومات، تملك قدرة التنسيق والاطلاع على كافة مشاريع وأعمال الوزارات، من أجل تأمين الصالح العام للمجتمع، من خلال تنفيذ كل مشاريع الحكومة بانسجام وتناغم، ويتبع لها ما يتبع من مجلس الجنوب ومجلس الإنماء والإعمار... ومجالس أخرى... وإدارات.
جسر جل الديب قضية رمزية جداً تصدرت عنوان هذا المقال، لكي تدل على شيء معين، وهي إن دلت على شيء، فعلى اهتراء وتفكك جسر الإدارة العامة في لبنان، وبالتالي تسكير طريق الإصلاح الإداري من قبل الإرادة السياسية كرمى لعيون المرجعيات الطائفية والدينية والإقطاعية.
المقارنة تجوز هنا، فأهل السياسة على اختلاف مرتباتهم، متفقون على تفكيك جسر الإدارة العامة، وعلى تسكير طريق الإصلاح الإداري؛ فالبداية كانت في تسكير وإلغاء وزارة التصميم العام، واستبدالها بمجالس وهيئات مختلفة...
لو كان لدينا إدارة عامة فعالة انطلاقاً من وزارة التصميم العام، المكلفة التنسيق بين كل الوزارات والأجهزة الإدارية من منطلق فني تكنوقراطي صرف، لما كنا قد شهدنا كل هذه البلبلة من اعتصامات وتقاذف مسؤوليات بين أكثر من جهة رسمية. وزارة التصميم العام هي وزارة مكلفة توجيه وتنسيق أعمال التجهيز المعدة لتنمية النشاط الاقتصادي والاجتماعي على صعيد الوطن، إضافةً إلى رفع مستوى حياة جميع المواطنين من خلال مخطط شامل وعام، يضمن الاستخدام الأمثل لكافة الموارد الوطنية، ومراقبة كل هذه الأعمال.
لكن كيف يجري كل هذا في ظل غياب وزارة التصميم العام والاهتراء الإداري الحالي؟ المطلوب «ثورة» ما في مكان ما يقودها مدنيون اصلاحيون من أجل الوصول إلى تأليف لجنة تخطيط وزارية، أو حتى المطالبة الشرسة بإعادة تفعيل وزارة التصميم العام، لإجراء دراسات معمقة يكون نتيجتَها مخططٌ عامٌّ متوسط الأمد. وهذه الدراسات يجب أن تشمل كل حاجات وإمكانات التنمية في لبنان، بغض النظر عن النظام السائد حالياً، وبغض النظر عن التوجهات المختلفة للشعب، يسارية كانت، ليبرالية أو حتى يمينية. على الدولة أن تؤمن الظروف الملائمة للتنمية الوطنية، وذلك يستدعي طبعاً الكثير من التغييرات في البنية الإدارية للإدارة العامة ككل، ويستدعي كشرط أساسي إعادة تفعيل وزارة التصميم العام.
إذا أردنا أن نكون براغماتيين، فإنّ التالي هو ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار كبداية لوضع السكة على المسار الصحيح. لنعُد إلى قضية جسر جل الديب مفترضين أن وزارة التصميم العام موجودة وفعالة، فعندها تؤلف لجنة وزارية مشتركة تجمع ممثلي مختلف الوزارات المعنية بالتخطيط لهذه القضية، برئاسة وزير التصميم العام، ويجري التنسيق في ما بينهم مع إبقاء مرجعية مجلس الوزراء مجتمعاً كصاحب القرار السياسي، إضافةً إلى مشاركة ممثلي مختلف الفئات المهنية، بعيداً عن أيّ تدخل للمجلس النيابي، فالتخطيط ضمن التصميم العام يجب أن يبقى شأناً صرفَ إداري.
هذا على الصعيد المركزي بين مجلس الوزراء والإدارة المركزية، أما على الصعيد الداخلي، «فأهل مكّة أدرى بشعابها» كما يقال؛ إذ هنا يجب، لا بل من الضروري، مشاركة الهيئات المحلية في الاجتماعات التي تعقد من أجل تنمية منطقتهم. المقصود تمثيل غير رسمي على المستوى المناطقي، حيث يقوم إلى جانب المحافظ مجلس استشاري مناطقي يتألف من القائمقام، وممثلي وزارة التصميم العام، والأهم من كل ذلك هو تمثيل القوى الاقتصادية والاجتماعية الرئيسية في المنطقة، ويكون لهذا المجلس دور أساسي في إبداء رأيه في أي مخطط عام يتعلق بتنميته المحلية.
هذا بالنسبة إلى جسر جل الديب على سبيل المثال لا الحصر. فالقاسم المشترك يكمن هنا؛ إن جسر الإصلاح الإداري من خلال إعادة تفعيل وزارة التصميم العام مع كامل صلاحياتها، شرط أساسي لإعادة فتح طريق الإدارة العامة، التي لن تكون لا سالكة ولا آمنة أمام الطاقم السياسي؛ فهذا الطاقم يجب أن يعتاد طريقاً واحدة، وجهة سيرها مجلس النواب بهيئته العامة ولجانه البرلمانية. هناك يمكن أن يقوموا بالتشريع وبسن القوانين وطرح الأفكار من خلال اللجان، وليتركوا السلطة التنفيذية بجناحيها الإداري أولاً والسياسي ثانياً تعمل عملها من أجل تأمين منتج إداري مثمر؛ فدورهم يكمن في المراقبة والمحاسبة لا المشاركة.
قضية جسر جل الديب المهترئ والمهدم هي تماماً كقضية الإدارة العامة المهترئة والمهدمة بفضل قرار سياسي طبعاً، وهي بانتظار من يدعم قواعدها من غير السياسيين من أجل إعادة فتح طريق الإدارة العامة أو ما يسمى الجناح الإداري للسلطة التنفيذية، وعلى رأسها وزارة التصميم العام.
لن نقول على من تقرأ مزاميرك يا داوود، بل سنقول: أيتها الشهابية، هل من يسمع ويتعظ لينفض الغبار من تحت أنقاض جسر الإدارة العامة المهدم؟