ليست «سلفية مسيحية» تلك التي ظهرت على أوتوستراد جونية الساحلي منذ شهرين تقريباً، بل تجمّع «عفوي» لمؤمنين، «متطرّفين» كما وصفهم البعض، احتجاجاً على سيل الإعلانات غير اللائقة، التي تنتشر في المناطق الكسروانية وتحديداً المسيحية منها. كلّ من يعبر الأوتوستراد، ستلفت نظره مجموعة من الشبّان والشابات، جالسين في فيء صورة كبيرة للسيّد المسيح. اللحى تزيّن وجوه عدد من الشبّان، فيما تتميّز الفتيات بثيابهنّ الطويلة والواسعة. لا يأبهن بحرّ شهر آب.
«يصنّ» أجسادهن بتنورة تخفي الساقين، وقمصان بأكمام طويلة، متشبهات بلباس السيدة العذراء. ويفصحن أنهنّ لا يرتدين ملابس البحر إرضاءً لله وشرائعه، خلافاً لما يروّجه تجار الإعلانات الذين يعتمدون على المرأة شبه العارية لنجاح إعلاناتهم.
هم أعضاء في جمعيات دينية مسيحية مختلفة، كما تظهر اللافتات التي يرفعونها في المكان. يتزايد عددهم أو ينقص خلال ساعات النهار، إلا أن المجتمعين لم يخلوا المكان منذ نحو شهرين. مطلبهم واضح: رفض التسليع الذي تتعرّض له المرأة، وخصوصاً في المناطق المسيحية. لهذا، لم يكن اختيار منطقة كسروان كمركز رئيسي للتحرك صدفة، بل «تصحيحاً» لصورة يبدو أنها «تشوّه» الدين المسيحي بجعل المنطقة الممتدّة بين بيروت والبترون، مرتعاً للوحات الإعلان غير اللائقة بحق المرأة، يكرّرون. والتجمّع، بالنسبة إليهم، عبارة عن صرخة تريد إعادة الاعتبار لكلام السيد المسيح، الذي يترجمه «أخوة الصليب» بلافتات وضعت في مكان الاعتصام، لعلّها تلفت نظر المارّة وتعيد أبناء الطائفة «الضالّين». نقرأ: «إن كان لك بنات فصن أجسادهنّ، «طوبى للرجل الذي لم يزل بكلمة من فمه»، «كلّ عمل فاسد يزول وعامله يذهب معه»، «عامل الناس كما تريد أن يعاملوك».
يوضح المجتمعون أن ما دفعهم إلى الاعتصام هو «أجساد النساء العارية والمكشوفة المنتشرة على لوحات الإعلانات والقنوات التلفزيونية المدعوّة مسيحية. والأخيرة تتنافس لعرض أكبر عدد من الإعلانات وبرامج النكات الإباحية، إضافة إلى اللباس الفاحش المثير للغرائز». كلّ هذه الأمور أثارت حفيظة بعض المؤسسات الدينية والجمعيات، التي خرجت عن صمتها لمواجهة واقع أصبح «يهدّد الثوابت الأخلاقية وشرائع الانجيل».
يسأل روفايل، الذي حمل على عاتقه استعادة الصورة «الصحيحة» للدين المسيحي: «لماذا تنتشر الإعلانات الإباحية في المناطق ذات الغالبية المسيحية دون سواها؟ هل لأننا حضاريون ومسالمون، تزرع اللوحات الإعلانية في ساحات كنائسنا وأمام مزاراتنا وعلى قنواتنا التلفزيونية، في وقت تمنع فيه في مناطق أخرى؟».
روفايل، الذي يعبّر في حديثه لـ«الأخبار» عن استيائه من «استضعاف المسيحيين»، يوضح أن هذا التحرّك «يندرج ضمن حملة مستدامة تعمل على ضمان رفعة الإنسان وحفظ كرامة المرأة وصورتها كأم وأخت وزوجة». ويحذّر «لن نقبل بعد اليوم نشر أي إعلان إباحي في مناطقنا، وندعو وزارة الداخلية والبلديات والمجالس البلدية إلى تحمّل مسؤولياتها في هذا المجال».
جومانا مشاركة في التحرّك. هي ناشطة في جمعية دينية، لكن مشاركتها في التجمّع نابعة من رفضها أن ينظر إلى المرأة كجسد مثير. لا تتردّد خلال الحديث معها في انتقاد الثياب التي نرتديها، فتصفها بـ«غير المحتشمة»، آملة أن يهدينا الله كما هداها. فهي أيضاً كانت ترتدي ثياباً مماثلة، لكنها اكتشفت أن جسد المرأة يجب صونه. تقول: «الحضارة تتمثّل في احترام جسد الانسان، بكامل أعضائه، وعرض جسد المرأة بالطريقة التي يحصل بها يهينه. مجد الإنسان يكمن في قيمته لا في اللحم الذي يعرضه». زميلتها ريتا، شابة ثلاثينية تصطحب طفلها أحياناً إلى التجمّع، ترفض أن يشاهد أولادها «صورًا على هذا القدر من الانحطاط» تقول. لا يعود الأمر إلى التعصّب الديني، بل لأن «المطلوب من الإعلان مراعاة الحسّ السليم واحترام المرأة. من المؤسف أن تتحوّل المرأة إلى سلعة جنسية لتسويق المنتجات».
لكلّ هذه الأسباب، ورغبة في الحفاظ على القيم الدينية المسيحية، ناشد المعتصمون كافة المسؤولين العمل على «عدم احتقار المرأة»، منتقدين أداء وسائل الاعلام «التي تكتفي بعرض القداديس والاحتفالات على نحو فولكلوري، فيما تغيب كلّ برامجها عن جوهر الدين». وطالب المعتصمون بتطبيبق المرسوم 8861، الصادر عام 1996، والمتعلق بتنظيم الإعلانات والترخيص لها. إذ ينصّ في مادته الأولى على «وجوب المحافظة على الآداب تحت طائلة نزع الإعلان على نفقة صاحب الرخصة ومسؤوليته وإلغاء الترخيص»، كما وجّهوا رسالة إلى المعلنين وأصحاب الشركات الإعلانية لـ«الارتقاء بأفكارهم عن الشهوات المادية والدنيوية، وليرتقوا في أدائهم ويحترموا خصوصية المشاهد، إذ لا يمكن أن يكون كل شيء مباحاً في المناطق المسيحية». في رأيهم «الحشمة فضيلة، لا حكر على طائفة معينة، كما أن القيم ليست محصورة بفئة دون غيرها».
روفايل وجّه رسالة إلى ممثلي «الجمعيات الرسولية والرعايا للتكاتف والتنسيق من أجل ملء النقص في العيش المسيحي». فمن لا يعرف المسيح في رأيه، لا يمكنه أن يعيش شريعة الانجيل، مضيفاً أنه «لا عجب إذا مرت على لبنان أحداث صعبة، فهي نتيجة الخطيئة التي ستجلب الدمار على لبنان».
يذهب المعتصمون أبعد من ذلك، كما نقرأ في المنشور الذي يحملونه ويتضمن دعوة إلى «جميع المؤمنين بالأخلاق أن يقاطعوا كلّ شركة وإذاعة وبرنامج ومحل وصيدلية تسهم في نشر أمور تسيء إلى الأخلاق لجهة الترويج للمشروب أو الدواء أو أي لباس من خلال استخدام جسد المرأة بطريقة مهينة، ويستعمله كسلعة للترويج. كما ندعو إلى مقاطعة النكات الإباحية والمسلسلات التي تدعو إلى الخيانة الزوجية». ويضبف روفايل عبر «الأخبار» توجيه دعوة إلى «السلطة الكنسية والاكليروس لمقاطعة مختلف وسائل الاعلام التي تروج للفساد، وأن يضعوا حداً لاستقبال وسائل الاعلام، لتكون بذلك خطوة بمثابة درس وعبرة لإيقاف كل ما يخل بالآداب» قبل أن يختم متمنياً على سلطات الأديان الأخرى دعمهم لتحقيق الهدف.
في المقابل، يوضح مدير إحدى شركات الإعلانات لـ«الأخبار» أنهم يأخذون في الحسبان الاعتبارات الدينية، لكنه يعترف بأن بعض الإعلانات لا تخلو من التجاوزات التي تقوم بها بعض الشركات متخذة منحى إيحائياً على لوحات الطرق. في رأيه، «يمكن البحث عن طرق تجذب المستهلك مراعية الأسس الأدبية، وخصوصاً أننا نعيش في دولة تضم سبعة عشر مذهباً دينياً ويجب علينا احترام الجميع».
يخالفه الرأي مدير شركة إعلان أخرى في موضوع الإعلانات الإباحية. يقول «مع اعترافنا بأن بعض هذه الإعلانات تستغل الجنس وجسد المرأة، فإننا بالتأكيد لا نقرّ فرض الرقابة عبر القوانين أو القادة الدينيين؛ لأن قواعد السوق يحدّدها الحس السليم والرقابة الذاتية».



«الحشمة واجب كنسي»

لا يعدّ هذا التحرّك الذي تقوم به مجموعة من الشباب المسيحي المتديّن الأوّل من نوعه. ففي تموز من العام الفائت، عقدت ندوة في المركز الكاثوليكي للإعلام، بدعوة من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، تمحورت حول «الإعلانات الإباحية والحشمة». الندوة التي تزامنت مع فورة برامج النكات التلفزيونية، والانتقادات التي واجهتها، تطرقت يومها إلى الروابط الروحيّة والأخلاقيّة والعائليّة الجامعة، موصية بطريقة عيش تمكّن من مقاومة إغراءات الموضة وضغط الايديولوجيّات السائدة» (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة عدد 2527)، كما تناولت موضوع «الحشمة الذي يبقى شعوراً سابقاً بكرامة روحيّة خاصة بالإنسان. وهي تولد بإيقاظ الضمير عند الشخص البشري. وتعليم الحشمة للأولاد والمراهقين هو توعيتهم لاحترام الشخص البشري». وأكدّت على أن «الحشمة واجب، مظهراً وملبساً وتصرّفاً، في الكنائس... وفي شتّى مجالات الحياة الشخصيّة والعامة. وما نلاحظه من مخالفة متمادية لها، في الكنائس وفي وسائل الإعلام والإعلان والاتصال يسبّب الشكّ والخطيئة، ويستدعي الشجب».