الأمر يشبه الدخول إلى مدينة للأشباح. سلالم معتمة، موحشة، يخال معها الداخل إلى ذاك المكان أن «عفريتاً» ما سيخرج من إحدى الزوايا. يتمدّد العتم، فتكبر مساحة الخوف، ويزدحم معه الرأس بالأسئلة: إلى أين تؤدي تلك السلالم؟ ماذا يوجد «تحت»؟ عشر درجاتٍ، 20، 30، تنتهي السلالم. يتنبه عندها الداخل إلى لافتةٍ صغيرة علّقت عند بابٍ حديدي. هي إعادة للافتة أولى معلقة عند مدخل المبنى الرئيسي، بالكاد مرئية: «حضانة ماما...».
خطوة إلى الداخل، خلف الباب الموصد. كلّ التكهنات تصبح حقيقة. فهنا، ملجأ تحوّل بـ«قدرة قادر» إلى بيت صغير من غرفتين و«نصف»: واحدة للأطفال، يقضون ساعاتهم فيها وينامون، وأخرى للمطبخ، حيث يأكلون. أما النصف، فللكادر الإداري المؤلف من «الماما» الكبيرة وموظفة واحدة. في ذلك الدار، لا يعود السؤال مهماً عن «الماما» التي استسهلت الحصول على المال من طريق تأسيس دار رعاية «تحت الأرض»، بل عن «الماما» الأخرى التي اختارت مكاناً كهذا لترك ابنها ساعاتٍ طويلة، من دون أن تحسب العواقب. عواقب قد تنتهي بموت مجاني، كما حصل مع الطفلة بيرلا عبود التي قضت اختناقاً في إحدى الحضانات أو سارة إبراهيم أو مجد سويدان.
3 أطفال قضوا في حضانات لا تستوفي شروط الترخيص التي يفرضها القانون. حضانات نبتت على عجل. أو بتعبير أدق، سقطت بـ«الباراشوت» في ظل التقاعس في تطبيق المراسيم والرقابة أيضاً. تلك الرقابة التي فاتها أن حضانة مرخّصة قسّمت مخيمها الصيفي إلى دوامين: دوام الصباح للأطفال، ودوام ما بعد الظهر للتمتع بشرب النارجيلة. فما رأي هذه الرقابة بنارجيلة في حضانة؟ وما رأيها أيضاً بالطفل الذي خرج من باب إحدى الحضانات وقطع الطريق العام وحده، وسط ذهول المارة؟ وما رأيها بالطفل الذي انعطبت مفاصل ركبتيه واستبدلت بـ«البراغي» لأن المرجوحة كانت لا تناسب عمره؟
ثمة أكثر. ثمة حضانات، وهي كثيرة، تطعم أطفالها بملعقة وصحنٍ واحد، ثم «تُسكرهم» بعد ذلك بأدوية منوِّمة. لم يكن هذا «اكتشاف الرقباء»، بل الأمهات اللواتي أقلقهن تعب طفلهن الدائم. تسترجع دارين، إحدى الأمهات ذكرى عام كامل من الخوف. كان ذلك منذ بضع سنوات، وكان الطفل لا يزال في عمر الثمانية أشهر. لاحظت أن ابنها يأتي من دار الحضانة نائماً. ظنت في بادئ الأمر أنه متعب من كثرة اللهو. تكررت الحالة مراراً. خافت الأم، فما كان منها إلا أن «دسّت مخبراً» في الحضانة، وكان الجواب «بيبيكال» (الدواء المنوّم للأطفال).
سكارى بـ«دوزات» مختلفة. لا أحد سيعرف. وربما لو مات، لما كان أحد سيعرف إلا «في حالة واحدة، إذا طلعت الخبرية على الإعلام أو كانت فاضحة»، تقول نقيبة أصحاب دور الحضانة في لبنان، هناء جوجو. تكمل قائلة: «هذا جهل، من يتصرفون هكذا لا يعرفون ما معنى دار رعاية، ربما كانوا يظنون أنهم يفتحون محلاً تجارياً». لكن، هل هي تجارة؟ لو عدنا إلى المرسوم الأخير ذي الرقم 4876، وهو النص المعدّل للمرسوم 12286، الصادر العام الماضي، لكان بالإمكان الاستدلال وإحصاء المرخّص من الحضانات من عدمه. فهذا المرسوم يفرض في بنوده الأولى أن يكون السجل العدلي لصاحب الدار نظيفاً أولاً، وأن يحتفظ ببوليصة تأمين في دار الحضانة. لكن، من هم الذين يستوفون هذين الشرطين؟ بحسب نقابتي الحضانات في لبنان، يستقر العدد عند 305؛ فنقابة أصحاب الحضانات المتخصصة في لبنان، التي يرأسها شربل أبي نادر تحوي «105 أعضاء من الحضانات المرخصة»، فيما تضم نقابة أصحاب دور الحضانات في لبنان، التي ترأسها هناء جوجو «200 حضانة مرخصة». لكن ثمة رقم آخر قد يلغي الرقم الأول، هو الرقم الصادر عن دائرة صحة الأم والولد والمدارس في وزارة الصحة العامة، وهي الدائرة التي تعطي التراخيص لدور الحضانة وتمارس الرقابة عليها. وبحسب الرئيسة باميلا منصور، ثمة «مئتا دار فقط تستوفي هذه الشروط وغيرها اللوجستية، بالفعل يمكن القول إنها نموذجية».
مئتان إذاً. لكن، ما هو العدد الموجود فعلاً على الأرض؟ تقول منصور إنه «أكثر من ذلك». وبحسب الإحصاء الذي تقوم به الدائرة للحضانات غير المرخصة والمعروفة أمكنتها، هناك «100 حضانة في المحافظات باستثناء محافظة الجنوب التي يمكن أن تحصي خمسين حضانة». تُضاف إلى هذه الأعداد «أعداد أخرى لا يعلمها إلا الله للحضانات غير المعروفة أمكنتها»، وهي التي قد تصل إلى حدود المئة ربما، حسب ما يشير نقيب أصحاب الحضانات المتخصصة في لبنان شربل أبي نادر. هكذا، يصبح الرقم على النحو الآتي: 200 مرخصة، و150 وربما أكثر لغير المرخصة والمعروفة أمكنتها، و100 أخرى ضائعة في بلاد الله الواسعة. نصل إلى حدود 450 حضانة.
نصف مرخص، ونصف زائد واحداً غير مرخص. هذه هي الحال في حضانات لبنان. سببان قد يكونان كافيين لتفسير هذه الطفرة في الأعداد غير المرخصة: أولهما الرقابة شبه المفقودة، وثانيهما العقوبات التي يفترض أن تحرّر بحق المخالفين. سببان وخلاصة واحدة: لا رقابة ولا من يراقبون ولا عقوبة ولا من يعاقبون.
الرقابة يتيمة. لا يمكن دائرة «الصحة» أن تقوم بها، وخصوصاً إن كانت «كلها على بعضها» مؤلفة من الرئيسة وسكرتير وحاجب ومراقب واحد مطلوب منه مراقبة حضانات «الوطن كله». يضاف إلى الفريق الرسمي مراقبان «استعارة» من مصالح الصحة في محافظتي الشمال والجنوب. دائرة بعدد موظفين لا تحصيهم اليد الواحدة قد لا يكونون قادرين على التقاط كلّ المخالفات. لكن، ثمة دور يمكنها القيام به، هو رفع لائحة بالحضانات غير المرخصة لوزير الصحة، على أن يرفعها الأخير للنيابة العامة لاتخاذ الإجراءات المناسبة. حدثت هذه الحالة مرة واحدة في عهد الوزير السابق محمد خليفة، وقد اتخذت وقتها النيابة العامة قراراً يقضي بإعطاء مهلة قانونية لهذه الحضانات لتنظيم حالها القانونية. يومها، سارت الأمور على ما يرام، لكن «عطل البلد» في مرحلة من المراحل كان من نتيجته توضيب الملفات في الأدراج. كان يمكن أن تكون العقوبة لمن خالف المهلة القانونية في حينها الإقفال النهائي، لكن لم يحصل شيء، واللائحة التي كانت تحوي 50 حضانة مخالفة باتت الآن على عتبة الـ150!
قبل ولادة المرسوم 4876، كانت الحضانات تشبه مستشفى وقائياً للطفل؛ إذ كانت وزارة الصحة في حينها تفرض وجود ممرضة، من دون الأخذ في الاعتبار الجانب التربوي. لكن بعد صدور المرسوم، وقبله المرسوم 12286، أدخل العامل التربوي.
عودة إلى تفاصيل المرسوم قد تكون كافية للإجابة عن السؤال: «لم يخالفون؟». أولاً في البناء، حدد المرسوم بألا يكون البناء «تحت مستوى الأرض أو في المستودعات أو في حرم مدرسي أو مبنى صناعي أو مستشفى، وألا يكون أقل من 200 متر مربع، على أن يكون لكل طفلٍ متر مربع واحد».
هنا، وإن كنا نتحدث عن عاصمة تلتصق مبانيها بعضها ببعض، لا يمكن العثور على طبقةٍ مساحتها أكبر من 150 متراً أو 170، إلا في حالاتٍ نادرة. وإن وجدت، فإما تكون تحت الأرض أو في الأماكن الممنوعة حسب المرسوم. وبطبيعة الحال، عندما لا يوجد هذا الشرط تنتفي الشروط الأخرى، فمن أين سيأتي صاحب العقار الصغير بهذا الكم الهائل من الغرف التي يفرضها المرسوم، وهو الذي يفترض وجود «غرفة إدارة واستقبال وغرفة نوم للأطفال دون عمر السنة و3 صفوف لممارسة النشاطات التربوية للأعمار ما بين صفر وسنة، سنة وسنتين، سنتين وثلاث، وقاعات لعب وغرفة طعام ومكان لراحة الطفل المريض ومطبخ وحمام ومراحيض». وأكثر من ذلك، يفرض المرسوم ألا يقل «علو السقف عن مترين و75 سنتيمتراً، وأن تفرش الأرض بمادة لدنة بتهوية وإضاءة جيدتين وجدران مطلية بمادة يسهل غسلها وتنظيفها».
أما العاملون، فلهم حكاية أخرى؛ فهؤلاء يفترض أن تكون اختصاصاتهم معينة، من المديرة إلى الممرضة والممرضة المساعدة والمهن الأخرى كالحاضنة المساعدة. لكن المديرة قد تكون «مجرد ماما»، أما الممرضة فقد تكون شهادتها حاضرة فقط من دونها، تماماً كما حصل في حضانة المنصورية التي كانت تحضن بيرلا عبود.
لكن الوعي يأتي متأخراً دوماً، ولهذا اتخذت دائرة «الصحة» قراراً منذ فترة يقضي بالمراقبة الدقيقة للحضانات، وذلك من خلال الكشف على دور الحضانة، على أن يقدم كل دار تقريراً سنوياً عن وضعه، إضافة إلى تقرير آخر صحي لتبيان «الإعاقات والمؤشرات الصحية ومستوى النظافة أيضاً». إلى كل هذا، عملت الدائرة على تحديث السجل الصحي للأطفال عقب ولادة أول طفل لها، يتضمن «معلومات عن الإرشاد الصحي للأم، ويكون بمثابة قاعدة معلومات في الوزارة للعمل على تحسين صحة الولد»، تقول منصور.
ثمة إجماع على أن الحضانات لا يمكن أن تكون مشروعاً تجارياً، إلا في حالة واحدة: إذا كانت غير شرعية. على هذا الأساس، يمكن الاستنتاج أن هناك ما لا يقل عن 150 «دكانة». وبما أن الحضانات هنا إما «first class» أو «تعتير»، فلنأخذ مثالين على الكلفة في النموذجين. بالنسبة إلى حضانة يقال إنها نموذجية، لا يمكن أن تقل التكلفة عن 15 ألف دولار. يفصّل أبي نادر الكلفة على النحو الآتي: «حضانة بمساحة 250 متراً مربعاً لا يمكن أن يقل إيجارها عن 1500 دولار أو حتى ألفين في المناطق الراقية، تضاف إليها 4800 دولار للكادر التوظيفي و2000 دولار للأكل والمحليات ونحو 500 دولار للأدوات المستخدمة في التسلية ومتطلبات الكادر التوظيفي وضمان وتأمين صحي بحدود 10 دولارات عن الطفل الواحد، إضافة إلى الدفوعات للهاتف والكهرباء ونحو 200 دولار للأعطال المفاجئة ورحلات الأطفال والباص الذي يقلهم وخدمة الإنترنت...». و«التسعيرة» في مثل هذه الحضانات تبدأ من 250 دولاراً، وصولاً إلى 400 دولار. وفي هذه الحال «الكلفة ليست باهظة، 8 ساعات بـ12 دولاراً يومياً منا كتير، ما بتتعرف خلالها الأم على شي»، تقول جوجو.
قد تقفل حضانة مثل هذه أبوابها، إن قل عدد الأطفال فيها عن 50 طفلاً، وتفقد قدرتها على الإكمال «إلا إذا أهملت أو اختزلت خدمات»، تقول المشرفة في نقابة دور الحضانات المتخصصة في لبنان إلهام العلم. وتشرح قائلة: «أول 30 ولداً رأسمالها، والعشرة الآخرون يعدّلون، والبقية يأتون بالخدمات الإضافية». ماذا إذاً عن النموذج الآخر؟ تجيب العلم: «في جميع الحالات ربحانين، إذا تقاضت 100 دولار أو حتى 80 ستبقى، لأنها لا تدفع أية تكاليف ولا مصاريف لديها أصلاً، وهذه الحضانات تؤدي دوراً كدور جليسات الأطفال فقط».



بين نقابتين

في عام 2004، ولدت النقابة الأولى للحضانات واتخذت صاحبتها هناء جوجو لها اسم «نقابة أصحاب دور الحضانات في لبنان». كان يمكن هذه النقابة أن تكون المرجع الوحيد للحضانات، ولكن حصل «سوء فهم» بين طرفين. الطرف الأول جوجو والآخر شربل أبي نادر، نقيب أصحاب «الحضانات المتخصصة في لبنان». تقول جوجو إنه «بعد سلسلة من الاجتماعات، خرجنا بفكرة تنظيم نقابة تضم أعضاءً من كل المناطق والأديان، لكن أبي نادر غيّر رأيه لاحقاً. عندها، أُسست النقابة في كانون الأول 2004». بعد فترةٍ وجيزة، ولدت النقابة الأخرى برئاسة أبي نادر. يومها، «شعرت بالحزن»، تقول جوجو، بقيت على شعورها إلى أن «اقترحت مجدداً أن تُفضّ النقابتان وتعاد الانتخابات من جديد. لكن لم ننجح؛ فقد بدأت بعض الأطراف تضع شروطاً».
وجهة نظر أبي نادر مغايرة؛ إذ تنقل المشرفة في النقابة الثانية إلهام العلم عن نقيبها قوله إن «جوجو تقدمت بالأوراق التي كنا قد أعددناها لتقديمها رسمياً وحدها، وبعد 48 ساعة علمنا بالأمر». حينها، تقدم الرجل بشكوى إلى مجلس شورى الدولة، فكان الرد «بإقامة نقابة أخرى؛ ذلك أن القانون يسمح بذلك».