الرجل الذاهب إلى عمله يعرف أنّه جثة، لكن ما يؤرّقه هو شكل الجثة التي ستصل إلى ذويه. أقصى ما يحلم به أن تكون جثته معروفة في المشرحة. الجثة للعراقيّين تحمل أكثر من قيمتها المعنوية والدينية لأنّها مرتبطة بمفهوم الجنازة. والجنازة قد تقوم من تابوتها وتعود إلى حياتها الأولى. لذلك يحرصون على الحصول عليها مهما كلف الأمر. غير أنّ اللافت أنّ الجنازة لن تحصل في النهاية على أكثر من قبر طيني ستفتّته الريح بمجرد أن يجف. إنّها حيلة سومرية ولا أقول طريقة، فالتعامل مع السماء لا يحتاج إلى طريقة بل إلى حيلة، فلا شيء مؤكّداً للعراقيين غير الموت.
كانت الجثة العراقية في حروب الطاغية البائد، لها قيمة ضئيلة عملاً بمبدأ ميكافلي (مبدأ شراء الجثّة). وكان يمكن تعويضها بسيارة أو قطعة أرض. لكن الجثة العراقية الآن لا تساوي شيئاً لأنّها فقدت اسمها الجنائزي، وفقدت القبر، وفقدت تاريخها. فما قيمة المقتول إذا كان تاريخ قتله مجهولاً ومكانه مفقوداً؟ ليس مهماً الحديث عن القاتل، فهو مشروع جثة أيضاً، بل مشروع مؤكّد طالما أنّ المقبرتين بحاجة إلى من يغذّيهما يومياً، والجثث يبحث بعضها عن بعض في هذا الجو المحموم.
من حسن حظ بعض الجثث أنّها تحتفظ بما يشير إلى هويّتها
تتحول بغداد بسرعة مذهلة من مدينة جميلة إلى مقبرة، والأصح إلى مقبرتين ستتحوّلان بدورهما إلى مقابر كبيرة إذا استمرت الجثث في التناسل هنا وهناك. لن تكون بغداد وحدها الضحية وهي القوية، فما بال مدن الطين الأخرى بعيداً عن دجلة؟ سقوط بغداد يستلزم سقوط مدن كثيرة، وتحول بغداد إلى جثة يستلزم تحويل الكثير من المدن العربية وربما غير العربية إلى جثث مفقودة الهوية. فما العمل أيّها العراقيون؟ ما العمل أيها العرب؟ ما العمل أيها الجيران؟ ما العمل أيّها العالم؟
* شاعر عراقي