الرجل الأقوى داخل «العربية» أعلن أمس أنه باقٍ في القناة بعدما رُفضت استقالته. لكن عودة الرجل إلى أحضان المحطة تطرح علامات استفهام كثيرة عن الصراعات الداخلية في المملكة وانعكاسها على الإعلام
ليال حداد
صدقت التوقّعات، وعاد عبد الرحمن الراشد عن استقالته من قناة «العربية». الرجل الأقوى داخل المحطة السعودية ـــــ كما يصفه معظم الموظفين ـــــ سيبقى إذاً في منصبه مديراً عام للقناة، بعدما دخلها عام 2003 بالتزامن مع الغزو الأميركي للعراق. يومها، قيل إنّ الإعلامي السعودي رسم خطة القناة في الترويج لهذه الحرب، والسعي إلى إسقاط النظام البعثي في بلاد الرافدين.
وقال الراشد في بيان توضيحي أصدره أمس إنّه تلقى اتصالاً من رئيس مجلس إدارة مجموعة MBC وليد بن إبراهيم آل إبراهيم، أبلغه فيه رسمياً رفضه قبول الاستقالة. وهو ما كان متوقعاً، «فالراشد أقيل من منصبه أربع مرّات قبل الآن، لكن جهات عليا كانت تتدخّل لإبقائه» يؤكّد مصدر مقرّب من القناة لـ«الأخبار». ولا يبدو هذا الكلام مستغرباً في ظلّ الصراعات الداخلية في السعودية. يعدّ الراشد أحد المقرّبين من الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود. وبالتالي، فإن المطّلعين على الأوضاع الداخلية في المملكة يؤكدون أنه إذا قُبلت استقالة الراشد، فذلك سيعدّ هزيمة للملك شخصياً، وللخط «الليبرالي» داخل السعودية. كذلك، فخروج الراشد كان سيسجّل نقطة إضافية للجناح المتشدّد في العائلة المالكة. وهو الجناح الذي يمثّله تمثيلاً رئيسيّاً أمير الرياض، سلمان بن عبد العزيز. ويقول مصدر من القناة إن الأمير سلمان أعرب مراراً عن استيائه من طريقة إدارة الراشد لـ «العربية»، «وهي الطريقة التي رأى المتشدّدون أنّها لا تمتّ إلى الوجه الحقيقي للسعودية بصلة». ويؤكّد المصدر أنّ الاستياء من عبد الرحمن الراشد بدأ منذ أن قرّر الرجل إجراء «نفضة» شاملة في المحطة، فظهر برنامج «صباح العربية» بحلّة منفتحة، وناقش مجموعة قضايا تعدّ محرّمة في المملكة. وما زاد الطين بلّة إطلاق برنامج «صناعة الموت» مع لينا صالحة الذي انتقد المتطرفين والأصوليّين في أكثر من حلقة.
تفيد مصادر أنّ الراشد أقيل أربع مرات من قبل لكن جهات عليا كانت تتدخّل لإبقائه
لكن ما حقيقة الذي جرى في الأيام الأخيرة؟ ولماذا تتالت الأحداث بسرعة بدءاً من توقّف الراشد عن كتابة عموده في صحيفة «الشرق الأوسط» ثمّ استقالته من «العربية» فعودته عن الاستقالة؟ تختلف الإجابات عند المقرّبين من الإعلامي السعودي. منهم من يقول إن الحديث عن الاستقالة بدأ قبل شهر، فيما يؤكّد آخرون أنّ خبر الاستقالة يوم الثلاثاء فاجأ الجميع، وخصوصاً رئيس مجلس إدارة مجموعة MBC وليد بن إبراهيم آل إبراهيم. لكن يُجمع الطرفان على أن الشعرة التي قصمت ظهر البعير كانت عرض برنامج «الإسلام والغرب»، الذي انتقد مباشرةً الفكر الوهابي وتحديداً محمد بن عبد الوهاب. «ومع انتهاء عرض الشريط، اتّصل مسؤول صفحة الرأي في «الشرق الأوسط» بالراشد وأبلغه الاستغناء عن خدماته» يقول مصدر من داخل القناة. غير أن الرواية الرسمية التي تناقلتها إدارة الجريدة أنّ الراشد نفسه توقّف عن كتابة مقالاته من دون تقديم أي أسباب مقنعة.
ولم تقف ارتدادات البرنامج عند هذا الحدّ، بل خرجت أصوات تنتقد البرنامج وتتّهم الراشد بمحاولة تحوير التاريخ وتشويه صورة المملكة، «لقد دفعوه دفعاً إلى الاستقالة» يعلن المصدر. ويضيف إنّ الخبر حل كالصاعقة على معظم الموظّفين الذين تربطهم علاقة ممتازة بالراشد. وقد استطاع هذا الأخير في سنوات عمله بناء صداقات متينة مع معظم العاملين في الفضائية الإخبارية. واللافت أن الراشد سعى خلال وجوده في المحطة إلى ضمّ مجموعة كبيرة من الصحافيين والتقنيّين السعوديين، وهو ما يفسّر تلويح هؤلاء بالاستقالة في حال خروج الراشد من المحطة. ورغم أنّ إدارة MBC نفت أن يكون ذلك صحيحاً، فإنّ الإعلامي السعودي تركي الدخيل أعلن شخصياً على صفحته على موقع «تويتر» أنّ هناك مجموعة من الاستقالات السعودية تعدّ لتقدَّم إلى إدارة المحطة. وأبرز هذه الأسماء إلى جانب الدخيل، بتال القوس، وفارس بن حزام... وبغضّ النظر عن الأسباب السياسية التي تقف وراء عودة الراشد عن استقالته، فإنّ الأكيد أنّ المحطة عاجزة حالياً عن إيجاد بديل عن هذا الإعلامي الذي عدّته مجلة «أرابيان بيزنيس» عام 2006 من أكثر الإعلاميين «تأثيراً ونفوذاً في المنطقة العربية والعالم».
وكان الراشد قد بدأ مسيرته الإعلامية محرّراً في صحيفة «الجزيرة» ثمّ تسلّم عام 1980 إدارة مكتبها في واشنطن، حيث درس الإنتاج السينمائي. ثمّ أصبح عام 1985 نائباً لرئيس تحرير مجلة «المجلة» السعودية الأسبوعية التي تصدر من لندن. وبعد عامَين، تسلّم رئاسة تحريرها. ومن «المجلة» إلى «الشرق الأوسط»، انتقل الراشد ليتسلّم رئاسة تحرير الصحيفة السعودية (1998) قبل أن ينتقل عام 2003 إلى «العربية». يُذكر أنّ «الأخبار» حاولت مراراً الاتصال بعبد الرحمن الراشد ووليد بن ابراهيم آل ابراهيم لكن من دون جدوى.


تضييق التيار المتشدّد

لم يعد توسّع التيار الديني المتشدّد داخل السعودية خافياً على أحد. يبدو أن هذا التيار بدأ يُحكم سيطرته على الإعلام داخل المملكة. ولعلّ القناة الأولى التي دفعت ثمن هذا التشدّد كانت «المؤسسة اللبنانية للإرسال» التي أقفل مكتبها في السعودية بعد إحدى حلقات «أحمر بالخطّ العريض». ولم يتوقّف الهجوم على المحطة اللبنانية عند حدود هذا البرنامج، بل نالت حلقة «عيشوا معنا» التي استضافت الشاعر السوري أدونيس نصيبها من الهجوم والانتقاد من جانب الحريصين على «أخلاق» المملكة. واستمّر هذا التيار في تضييق الخناق على الإعلام إلى أن خرجت أخبار عن إقالة رئيس تحرير صحيفة «الوطن» جمال خاشقجي (الصورة) السعودية بسبب «إزعاجه للسلفيّين».