أول من أمس، مرّت الذكرى الثانية لرحيل المثقف العراقي الذي اغتيل في وضح النهار في بغداد. رفاقه عبر العالم يستعيدون اليوم مشروعه... أما في بلاده، فيقتل مرّة ثانية بفعل التجاهل والنسيان


حسين السكاف
التاريخ حافل بقصص اغتيال المفكرين والعلماء والمبدعين، وأغلب تلك الاغتيالات جرت بأوامر وقرارات سياسيّة. لكن لماذا كامل شيّاع (1954ـــــ 2008)؟ ماذا كان يمتلك ما من شأنه أن يزعج أو يخيف؟ صورة معيّنة كان يمتلكها للعراق التعددي والديموقراطي والمستقل على الأرجح؟ إصراره، بعيداً عن إغراءات السلطة الفاسدة على العمل الميداني مع الناس، والمراهنة على التقدّم والتغيير من خلال الثقافة؟ لم يسبق أن شهدت الثقافة العراقية غير الرسميّة التفافاً واسعاً حول رمز ثقافي، كما هي الحال مع الكاتب العراقي كامل شيّاع...
منذ اغتياله في 23 آب (أغسطس) 2008 لم تتوقف عمليّة فحص الضمير واستعادة الذكريات. يصعب أن نجد مثقفاً عراقياً ليست له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بهذا الباحث والكاتب الذي أمضى ربع قرن من حياته في المنفى البلجيكي. نجح في فترة عمله القصيرة نسبياً في أن يسمو على كل ما تشهده الساحة العراقيّة اليوم للأسف من انقسامات وتمزقات مذهبيّة وقوميّة وأيديولوجيّة و... شخصيّة.
كل هذا يعود إلى فكرة أساسية كان كامل شيّاع يتبنّاها ويؤمن بها: إنّها فكرة «روح العمل الجماعي لهدف نبيل» التي اشتغل عليها الراحل كثيراً، انطلاقاً من إيمانه بأنه لا يمكن العراق النهوض ثقافياً إلا بها. وقد حاول تأسيس خلية عمل تنهض بواقع ثقافي تعرّض على مدى سنوات للكثير من التشويه والتزييف، وانتشرت بين خلاياه العديد من الشوائب والطفيليات. هو الذي قال مرةً إنّ «المهمة التي يواجهها العراق اليوم لا تنحصر في سماع أصوات حرة هنا وهناك. المهمة الأساسية هي كيف نصنع من هذا التنوع والتضاد والتعارض الواسع والقاتل، إجماعاً صادقاً حول مشروع بناء الوطن، الذي هو مشروع عمل وليس مشروع كلام وبلاغة سياسية».
لكن من أين تكون البداية، والعراق يمور بمتناقضات، كلّ منها يمثّل معضلة كبرى تقف في وجه كل جديد يسعى إلى رسم صورة مريحة للمستقبل؟ تساؤل مهم لطالما دار في خلد هذا المثقف العراقي الاستثنائي. هناك إشكاليات يصعب التفكير فيها، أو حتى الاقتراب منها، ومنها ما شخصها كامل شيّاع في إحدى مقالاته حين كتب: «إحدى الإشكاليات المهمة، تقع في حقل الصراع بين الثقافة الشعبية والثقافة العالية، وبوادر تكرار النزوع إلى الهيمنة السياسية على الحياة الثقافية وتورط الثقافة والفنون في مهمات تعبوية. لذا، فإن تأسيس مشروع ثقافي تنويري هو من مهمات المثقف العراقي للمساهمة في صنع نظام إنتاج ثقافي متعدّد المصادر ومتنوع الاتجاهات يروج لرؤية إنسانية عقلانية منفتحة على العالم، تسهم في ترسيخ قيم المساواة وحرية الإنسان وكرامته...».
المقطع السابق يصورّ على نحو مكثف ودقيق خطة عمل أولية لفريق عمل جماعي تمثّل بالفعل، وصار ظاهرة يتحدث بها الشارع الثقافي العراقي، كان حضنها مكتب كامل شيّاع ـــــ مستشار وزارة الثقافة العراقية حينذاك ـــــ ولاحقاً بيته الذي بناه في بغداد ليكون مقراً دائماً لخلية عمل أخذت تتسع على نحو مذهل. وهذا بحدّ ذاته، يمثّل «خطراً كبيراً» فوق ساحة باتت فريسة للعنف الأعمى وشتى العصبيّات، على الجهات الساعية إلى الهيمنة على البلد بكلّ ثرواته الحضاريّة. جهات تعتمد على أيديولوجيات وموروثات تاريخية تزيدها ضعفاً، وتجعلها دائمة الشعور بضآلتها، إلا أنها صارت ـــــ تحت ظروف استثنائية ـــــ من المكونات الأساسيّة للدولة.
هكذا انتشرت روح العمل الجماعي بين المثقفين العراقيين، وصارت تعمل على أسس تبناها المشاركون وآمنوا بها من دون اتفاق مسبق. فقد كانت الأسس والأفكار تصلهم تباعاً من خلال مقالات شيّاع التي كانت تنشر على صفحات الصحف العراقية والعربية، إضافة إلى الرسائل الشخصية التي كانت بمثابة دروس في التحليل وتقويم الأوضاع والظروف السياسيّة الراهنة. اتسعت رقعة العمل الجماعي حتى إقليم كردستان ثم المنافي. وما هي إلا فترة وجيزة، حتى ظهرت ثمرة ذلك التجمع «غير المنظّم» بالطبع، على شكل توصيات أُقرت من خلال «مؤتمر المثقفين العراقيين» الذي عقد تحت رعاية وزارة الثقافة العراقية في نيسان (أبريل) 2005، وأُطلقت على توصياته لاحقاً تسمية «خريطة طريق الثقافة العراقية». إلا أن تلك التوصيات جوبهت بتعنّت العقول المؤدلجة التي حالت دون تنفيذها. والغريب أن تلك العقول خرجت من داخل وزارة الثقافة ومن بين أعضاء الحكومة، ومنهم من كان في مركز اتخاذ القرار. مع ذلك، لم يستسلم كامل شيّاع لليأس، وظلّ يعمل ويكتب ويحلم ويناضل.

بعد سقوط الديكتاتورية عام 2003، ظهرت ملامح نظام ليس فيه ديكتاتور، لكنّه مؤسس على القوة والعنف وتهديد الحريات (ك. ش.)

آمن بأنّ النهوض بالعراق لا يكون إلا من خلال «العمل الجماعي»
في الواقع، إنّ عملية الاقتراب من نص شيّاع والتقاط الأفكار بين سطوره، هي في الحقيقة اقترابٌ من مشروع فكري ثقافي متماسك، والتقاطٌ لخطة عمل مهمة لبلد مثل العراق، تئن كل خلاياه وجعاً. هو الذي لخّص المشهد بعد الاحتلال الأميركي قائلاً: «لعلّ الدرس الأساسي الذي يمكن استخلاصه من العقبات التي تواجه الديموقراطية وتشظي الهوية الوطنية، أن الطريق نحو الحداثة التي نفهمها كفرصة تاريخية متجدّدة ذات احتمالات مرنة، غير معبد ولا خال من الالتواء والمسارات الفرعية. والذي حصل في بلدنا عقب إسقاط الديكتاتورية في 2003، وأسقط في أيدي الكثيرين من دعاة المشروع الحداثي، كان أشبه بحال من أراد أن يغيّر عملة بأخرى، فحصل على عملة ثالثة لم يقصد الحصول عليها. كم يسيراً التخيّل بأن إزاحة الديكتاتورية ستفضي إلى نقيضها المباشر الذي هو الديموقراطية؟ في واقع الأمر، ظهرت عندنا ملامح نظام ليس فيه ديكتاتور، لكنه مؤسس على القوة والعنف وتهديد الحريات».
رغم مرور سنتين على اغتيال كامل شيّاع، لم نسمع من داخل تركيبة الدولة العراقية من يطالب بالكشف عن قاتليه، أو حتى يفكر في إحياء ذكراه أو إقامة احتفالية تكريمية «ولو صورية» له... فيما تحتفي به دول ومنظمات عالمية كبرى؟ في إيطاليا، هناك قاعة دراسية وسط أكبر جامعاتها تحمل اليوم اسم كامل شياّع، وجامعة لوفن ومعهد البوزار في بروكسل يحتفيان بذكراه سنوياً (راجع المقال في مكان آخر في الصفحة) وتفخر بلجيكا بأنّها احتضنت كامل ردحاً طويلاً من الزمن. فإليها التجأ هرباً من الديكتاتوريّة، وفي جامعاتها ومسارحها ومنتدياتها ومعارضها ومكتباتها تكوّن جزء مهمّ من وعيه وثقافته ومراجعه. كل ذلك الرصيد الذي حمله على ظهره ومضى... كي يشارك في بناء العراق الجديد. المثقّف العضوي بالمعنى الغرامشي، لم يجد معنى لوجوده خارج الجماعة. والباحث الجامعي الذي غاص على فكرة اليوتوبيا... صار هو نفسه اليوم «شهيد اليوتوبيا». نتذكّر كامل شيّاع لكي لا تموت أفكاره... لكي لا نترك البرابرة يقتلونه مرّة ثانية.


بدأ كامل شيّاع رحلته عبر المنافي في 1979، ثم استقرّ في بلجيكا حيث تزوّج وأنجب ابنه الوحيد. بعد الاحتلال الأميركي للعراق، عاد وشغل مناصب عدة، وعمل مستشاراً في وزارة الثقافة العراقية، قبل أن يسكته القتلة في 23 آب (أغسطس) 2008. أصدر العديد من الدراسات منها «اليوتوبيا كنقد»، و«الطريق الطويل نحو الحداثة: تأملات في قضايا الديموقراطية والهوية». وقد أُطلقت مجموعة باسمه على «فايسبوك» يشرف عليها الشاعران زعيم النصار وهنادي المالكي.