وسام كنعانلن تحتاج إلى أكثر من ساعتين كي تفرغ من قراءة المجموعة الشعرية التاسعة لمحمد عضيمة، وعنوانها «أصل بعد قليل» (دار التكوين ــــ دمشق). الشاعر السوري المقيم في اليابان يستعيد هنا عبارة يكثر العرب من استخدامها في حياتهم اليوميّة. العنوان مأخوذ عن تلك الرسالة القصيرة التي نجدها محفوظة على نحو مسبَّق في هواتفنا النقالة. وجدها الشاعر ملائمة لتدعيم سخريته من فكرة التاريخ والوقت: «أصل بعد قليل ميلادية... أو في السابعة إلا ربعاً هجرية». يكتب عضيمة نصوصه النثرية على شكل رسائل يفتتحها بالجملة ذاتها: «صديقي العزيز». يقابل كل رسالة، نص شعري، يحكي ما تختزله الحياة من روتين، ومن تكرار، ومن تشابه قاتل في الأحداث واليوميات. في هذا السياق، يردد لازمة مشتركة في مطلع نصوصه: «الخجول من نفسه خجول من... ومن...»، ثمّ يكرّر في ختامها: «وأنت عفواً من أنت، أو ممّ تخجل». الصديق العزيز يتغير بين نص وآخر. بعد لازمة البداية، تجد كلّ الرسالة ضالّتها عند شخص جديد، فهو «الشاعر السريالي» حيناً، أو «الروائي الكسول الذي يتعكّز على التاريخ» حيناً آخر. هنالك رسالة موجهة إلى «رفيق في حزب منحل»، أو إلى «قائد الحروب الوهمية»، أو إلى إحدى نساء الشاعر العابرات، وغير ذلك... يستجمع صاحب «يوميات طالب متقاعد» (1996) تراكمات تجربته الشعرية، وسنوات ترحاله، وبحثه الدائم في العديد من الثقافات واللغات. رغم ذلك، يطلّ كأنّه ترك روحه معلقة عند طاولته المعتادة في مقهى «الروضة» الدمشقي. كأنّ ديوان محمد عضيمة يشبه صاحبه حدّ التماهي. تشبه النصوص ثرثرات صاحبها مع أصدقائه المعتادين في المقهى. لكنّه يعيد هنا بناء تلك الثرثرة، على شكل شعري متحرّر تماماً من الصور البيانية بكلّ أشكالها. «المجاز وما شابه شعر جاهز والشاعر من يستطيع

ابن جيل سوري خبر القلق جيداً وتماهى لديه الوطن بالمنفى

الابتعاد قليلاً أو كثيراً»، يقول. يخاطب «صديقه العزيز شاعر الاستعارات» في مكان آخر، ليعلّمه كيف يجرّد الأشياء من كينونتها، وكيف يدفعها لاغتيال حاضرها. يفترض أن صديقه الشاعر نفسه مهتمّ بمخاطبة الساسة والشيوخ والنقاد، ونساء النقاد وأخواتهم، دوناً عن بائعات الهوى والسكارى والقوادين و«أولاد الحرام»...
الشاعر الخمسيني ابن جيل سوري خبر القلق جيداً. وبقي هذا القلق رفيقه الدائم في وطن يشبّهه بالمنفى فيقول: «وأنت يا وطني في أي المنافي تعيش، وهل تعود مثلي في العام مرتين إلى الوطن؟» هكذا، يدوّن الشاعر قلقه بكلّ ما يملكه من فجاجة ومباشرة في الحواريّة الآتية: «- عفواً ما اسمك - قلق - ما اسم أبيك - قلق - ما اسم أمك - قلق - سجل عندك يا مساعد سليمان: قلق ابن قلق، والدته قلق. يوضع على اللائحة بانتظار فرزه إلى كتيبة الانتظار». بروح السخرية نفسها، يسائل عضيمة قدراً رُسمت ملامحه جيداً: «نصب الجندي المجهول في قاسيون، وأنصاب الجنود الآخرين في جميع أنحاء البلاد. كما لو أنّ شيئاً لم يكن: ساحة القتال صامتة». ثمّ يعيد صياغة كلام مشابه، لكن بالعاميّة هذه المرّة: «والله شي بيدوّخ... لا بيعرفوا يقاتلوا ولا بيعرفوا يستسلموا. لا بيعرفوا يحاربوا ولا بيعرفوا يسالموا. لا بيعرفوا يموتوا ولا بيعرفوا يعيشوا...».


يوقّع الشاعر ديوانه عند التاسعة من ليلة الغد في «مطعم نينار» (دمشق القديمة ــ باب شرقي)