نظرات أجيال مختلفة متنوعة ثقافياً واجتماعياً
فكرة مستحدثة بنت عليها الباحثة المصريّة «أطلس القاهرة الأدبي» على شكل جولة عبر نصوص 56 كاتباً، من نجيب محفوظ وإبراهيم أصلان وجمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم وألبير قصيري... إلى حمدي أبو جليل ومصطفى ذكري، بحثاً عن روح المدينة الخالدة

دينا حشمت
«حاولت (...) أن أدع «المدينة تحكي عن ذاتها»، أن أدعها «تبرز من الأعمال الأدبية في «شذراتٍ»، في نتفٍ وأجزاء تشكّل، حين يوضع بعضها إزاء بعض، خارطةً، و«تكلّمنا» فعلياً». هكذا تكتب سامية محرز، مستلهمة أعمال عالم اللسانيات الفرنسي رولان بارت، في مقدّمة كتابها «أطلس القاهرة الأدبي» الصادر بالإنكليزية عن الجامعة الأميركية في القاهرة. وسيصدر بالعربية عن «دار الشروق» (ترجمة ثائر ديب).
المدينة الكبيرة، المدينة الضخمة المتشعّبة رُسمت وبُنيت وفُكّكت في آلاف النصوص الأدبية، بطريقة مختلفة كل مرة. الحكاية تختلف باختلاف الراوي في مدينة تتميّز بتباين أجوائها الطبقية والثقافية. من كل هذا الزخم الأدبي، اختارت أستاذة الأدب العربي في الجامعة الأميركية نصوص كتّاب ينتمون إلى أجيال وخلفيات ثقافية واجتماعية ودينية مختلفة، بعضها كُتب بالعربية وبعضها بالإنكليزية والفرنسية، وتمتد فترات كتابتها بين نهاية القرن الـ19 وبداية القرن الـ21. تعطي هذه النصوص القارئ فرصة التسكّع في شوارع العاصمة، من «زقاق المدق» و«خان الخليلي» في القاهرة القديمة مع نجيب محفوظ، والأحياء المغلقة الجديدة، «الكومباوند» مع أحمد خالد توفيق في «يوتوبيا». نزهة في أجواء مختلفة من أحياء الطبقة الوسطى في مدينة نصر إلى «حي الزرايب/ الزبالين»، مروراً بحي المنيرة في وسط المدينة التي يحنّ الراوي إلى ماضيها الأرستقراطي.
في الجزء الأوّل من الكتاب «خطط القاهرة»، ينظر القارئ إلى بعض الأحياء بعين كتّاب رووا طفولتهم فيها، مثل «هليوبوليس» ضاحية الطبقة الوسطى التي روتها مي التلمساني، أو الكيت كات الذي أصبح معلماً أدبياً منذ صدور رواية إبراهيم أصلان «مالك الحزين». تشارك صاحبة «حروب مصر الثقافية» متعة قراءة فضاء جغرافي واحد من وجهات نظر مختلفة. عن ضاحية حلوان العمّالية مثلاً، كتب حمدي أبو جليل ساخراً عن تاريخ أحيائها العشوائية فيما رسم مصطفى ذكري تماثيل «بوذا» في حديقتها اليابانية.
في الجزء الثاني، تتوقف محرز عند «الفضاءات العامة» المبنية

«عوّامة» السيد عبد الجواد... و«بورديل» ألبير قصيري
حول «معالم المدينة». لكل واحدة منها «دلالتها التاريخية والثقافية والسياسية والاجتماعية والرمزية». «الكتّاب المبدعون» هم حقيقةً «قرّاء متميّزون» لهذه المعالم، لأنهم يطوّرون علاقة خاصة بهذه الفضاءات، تقول. اختارت نصاً لجمال الغيطاني يجعل الهرم الأكبر مركزاً لتساؤلات وجودية، وآخر لصنع الله إبراهيم ينظر إلى القلعة كمكان يحمل دلالات تاريخية وسياسية (منها أنّه كان معتقلاً سُجِن فيه الكاتب نفسه)، ومشهداً لنجيب محفوظ يصف ما تمكن رؤيته من نافذة مقهى «ريش» في وسط المدينة. لم تستثن الكاتبة نصوصاً عن فضاءات المدينة الكولونيالية، على غرار فندق «شيبرد» في نص بالفرنسية لروبير سولي أو «غروبي» في رواية وجيه غالي الوحيدة ـــــ بالإنكليزية ـــــ الشاهدة على عصر كان هذا المقهى يقدّم الويسكي، ولم يتحول بعدُ إلى ملتقى للطبقة الوسطى المتديّنة.
لا فضاء يسمح بتطوّر حساسية الكاتب مثل «الفضاءات الخاصة» (الجزء الثالث). هنا أيضاً اختارت الكاتبة نصوصاً تدلّ على التباين الصارخ بين قصور العصر البائد وبيوت الصفيح، لا فقط من حيث مستوى غنى أصحابها، بل أيضاً من حيث نوع الحواجز بين العام والخاص، الخارج والداخل. هكذا تتاح فرصة التسكّع في أماكن لا يمكن العابر أن يفطن لوجودها. فرصة زيارة «عوّامة» يرتادها «السيد عبد الجواد» في «قصر الشوق» لمحفوظ أو «بورديل» يرتاده راوي ألبير قصيري في أشهر رواياته «شحاذون ونبلاء». الجزء الرابع والأخير كرّسته محرز لنصوص عن وسائل المواصلات، من أزمة «الكارو» في بدايات القرن العشرين إلى ميكروباصات القرن الـ21. هنا أيضاً اختارت نصوصاً تصوّر المواقف نفسها من زوايا مختلفة: راوي رؤوف مسعد يتحدّث في «إيثاكا» عن التحرّش من وجهة نظر الذَكر الساعي إلى هذه «المغامرات»، فيما تحكي راوية إحدى قصص منى برنس إحساسها بالاغتراب خلال رحلة يوم كامل من مكان عملها في جامعة السويس، إلى بيتها في الفيوم.
وليس مصادفة أن يعبّر آخر نص هذه «الأنطولوجيا المدينية» بطريقة ساخرة عن ذلك الإحساس بالاغتراب الذي قد تشعر به امرأة غير محجّبة في جحيم المواصلات. اغتراب عن القيم التي أصبحت تسود المجتمع المصري، وفوضى البناء التي جعلت العاصمة فضاءً دائم التوسّع، ما يجبر المرء على قطع مسافات طويلة بين منزله ومكان عمله.
لا تجد راوية منى برنس مفراً من هذا الاغتراب سوى الانطواء على فضائها الخاص المنعزل، مؤكدة يأسها من أي تحوّل إيجابي في جحيم المدينة الكبيرة. أما صاحبة «أطلس القاهرة الأدبي»، فتُعطي المدينةَ فرصة أخيرة لاستعراض مفاتنها، جاذبيتها وجنونها، بطشها وضعفها، مؤكدة أنّ «أم المدن» ما زالت كائناً حياً، «تخاطب ساكنيها»، رغم تحويلها إلى متاهة من الطرق السريعة تحاصر «أحياء مغلقة» قليلة وعدداً لامتناهياً من العشوائيات.