يختزل وسط المدينة تاريخ العاصمة وتناقضاتها. من محجّة لصنّاع الأفلام العربية، إلى خطّ تماس سابق أرّخ فيه السينمائيون اللبنانيون أهوال الحرب... إلى قبلة فناني الكليبات. «وسط البلد» عشقته الكاميرا بحلوه ومرِّه
هناء جلاد
يختزل وسط بيروت بالذات تاريخ العاصمة اللبنانية وتحوّلاتها عبر الزمن، من محجّة لصنّاع الأفلام العربية، إلى خطّ تماس تهافت عليه السينمائيون بعد الحرب لتصوير أفلامهم... قبل أن يأتي مشروع إعادة الإعمار ليحوّل وسط المدينة إلى محجّة لفناني الفيديو كليبات!
وسط بيروت هو أيضاً مرآة لتناقضات المدينة بوجهها ومعالمها الزئبقية. قبل 1975، صُوِّرت هنا العديد من الأعمال السينمائية. رصد «أبي فوق الشجرة» آخر أفلام الراحل عبد الحليم حافظ جاذبية حياة الليل في العاصمة اللبنانية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى فيلم «الراهبة» الذي أدّت دور البطولة فيه الممثلة هند رستم. ثم جاءت الحرب لتقطِّع أوصال بيروت إلى شطرين: شرقية وغربية، وتدمِّر وسطها بأسواقه وساحاته، وتبقى بيروت مجرّد صورة عن الزمن السعيد في فيلم هنا وآخر هناك. وحين صمتت الحرب وفُتحت المعابر ورُفعت الدشم عن خطوط التماس، تقابل الطرفان عند النقطة الوسط التي وجد فيها صنّاع الصورة موقعاً مثالياً لالتقاط الحرب الغابرة، وتسجيلها على شرائط للسينما قبل إزالة آثار الدمار والردم عام 1994.
هكذا، حضر قلب بيروت الممزَّق في أعمال العديد من السينمائيين اللبنانيين الجدد. بعدما غادر لبنان إلى لوس أنجلس إثر الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، عاد زياد دويري بعد عشر سنوات ليصوِّر فيلمه الأشهر «ويست بيروت» (1998). دارت العديد من مشاهد الشريط في وسط بيروت، الذي كان لا يزال خربةً مهجورةً، وفضاءً ترقص فيه أشباح الماضي الأليم، ويخيّم عليه طيف الحرب. هكذا، شاهدنا المراهقين الثلاثة في فيلم دويري يركضون تحت مرمى القناصة إلى وسط بيروت المدمّر كي يقتنصوا بعض اللحظات في ماخور أم وليد (ليلى كرم)، التي راحت تتحسّر على «الزمن السعيد» والأيام الخوالي، حين كان ماخورها يضجّ بالحياة ويغصّ بالحركة والزبائن. ومن ماخور أم وليد إلى «أشباح» غسان سلهب. عاش السينمائي اللبناني بعيداً في أفريقيا ثم باريس، لكنّه عاد ليصوّر العاصمة المنكوبة وأهلها في فيلمه «أشباح بيروت» (1998)، الذي صوِّرت مشاهد منه في وسط المدينة المدمَّر.
من جهته، سارع جان شمعون إلى تصوير وسط المدينة المخرّب قبل أن تبتلعه جرّافات إعادة الإعمار. هكذا، قدّم «طيف المدينة» (2000) باكورته الروائية الطويلة التي تناولت خلفيات الحرب اللبنانية (1975 ـــــ 1990). الفيلم الذي أدّى دور البطولة فيه مجدي مشموشي وعمّار شلق أثار أسئلة الحرب وما بعدها بكلّ مرارتها وخطورتها. ثم انضمت جوانا حاجي توما إلى قافلة المولعين بتسجيل وجع وسط بيروت قبل أن تمحوه الجرافات. وإذا بها تقدِّم في عام 1999 فيلمها «البيت الزهر» الذي جاء صورةً ناطقةً عما جرى من تبادل للقصف والقنص بين خصوم الأمس القريب. البيت الرائع بما يحمله من آثار للحرب، صار مهدّداً بالزوال مع بدء إعادة إعمار وسط بيروت ليحلّ مكانه مركز تجاري عصري، وسط صرخات أهالي الحيّ واستغاثاتهم. هكذا، تناول الشريط بطريقة مباشرة قصص أهل «البلد» وجسّد دور البطولة في الفيلم جوزف بو نصّار ومجدي مشموشي.
واللافت أنّ هذه الأعمال لم تحمل ختم «صُنع في لبنان»، بل احتاجت إلى الدعم المادي الخارجي لتخرج إلى جمهور الشاشة الكبيرة، وآخرها كان فيلم «دخان بلا نار» (2009) للسينمائي اللبناني سمير حبشي، الذي حكى مرحلة ما بعد الطائف حتى لحظة اغتيال الرئيس رفيق الحريري بأسلوب خيالي. وقد استعان حبشي بالممثل المصري خالد النبوي وسيرين عبد النور، واختار بعض شوارع وسط بيروت لتسجيل مشاهد أساسيّة من الشريط.
وبعدما سارع السينمائيون إلى تصوير قلب المدينة المخرّب، جاءت مرحلة إعادة الإعمار، فغيّر وسط المدينة جلده، ومحا آثار الحرب عن وجهه، وتحوّل إلى قبلة للسيّاح عرباً وأجانب... وصار موقعاً جديداً وممتازاً ـــــ لكن هذه المرة ـــــ لتصوير كليبات الأغاني. هكذا، بحثت اليسا عن حبيبها الضائع خلال تصوير أغنيتها «لو تعرفو» في منطقة «سوليدير». وفي المكان نفسه، رقصت الحسناوات على أنغام أغنية التونسي صابر الرباعي «يا أغلى». واستضافت رولا سعد الممثل التركي كيفانش تاتليتوغ الشهير بمهنّد لأداء دور البطولة في كليب «ناويهالو». كما اعتاد المخرج سعيد الماروق في معظم كليباته التعريج على وسط بيروت لصنع مشهدية متكاملة، وهذا ما فعله في كليب «شو هالحلا» لنجوى كرم، و«ممكن» لعاصي الحلاني. كما اختارت المخرجة الإماراتية نهلة الفهد أحد شوارع وسط بيروت لتصوير أغنية «شفت اتصالك» للمغنية اللبنانية ديانا حداد... حتى وصل عدد الأغنيات المصوَّرة في شوارع وسط بيروت ومتفرّعاته إلى ما يفوق الألف أغنية.
لكن من «بيروت يا بيروت» 1975 لمارون بغدادي إلى بيروت 2010، بقيت العاصمة اللبنانية من أكثر المدن التي صوّرتها الكاميرا بحلوها ومرِّها. وصار وسط المدينة تحديداً مكاناً يتكثّف فيه تاريخ العاصمة ويختزل تناقضاتها كأننا بامرأة لا تنفكّ تغيّر تسريحتها بعد أن تدير ظهرها لماضيها الثقيل وذاكرتها الأثقل!


فيروز وخوليو والآخرون

بعد الحرب، عاد وسط بيروت ليشهد حفلات غنائية بدءاً من 1994. وكانت فيروز من أوائل الفنانين الذي غنوا في شاحة الشهداء في 17 أيلول (سبتمبر) 1994. بعد هذه الحفلة، كرّت سبحة الحفلات في هذه المنطقة بالذات. ومنها حضور عمرو دياب لإحياء حفلة رأس السنة في «بيال» عام 2000. كذلك غنى تامر حسني وخوليو إيغليزياس وغيرهما من نجوم العالم في هذا المكان، بسبب الرمزية التي بات وسط بيروت يتمتّع بها.