بيار أبي صعب
لا شكّ في أنّ «أشغال داخليّة» الذي ينطلق اليوم، هو من أهم إنجازات «أشكال ألوان». يطفئ الـ«منتدى عن الممارسات الثقافيّة» شمعته الخامسة، أي أنّه دخل سنته العاشرة، فيما تستعدّ الجمعيّة اللبنانيّة للفنون التشكيليّة التي تديرها كريستين طعمة، لمنعطف حاسم في مسارها، داخلةً مع «الأكاديميّة» في مخاطرة جديدة على طريق النموّ والنضج والترسّخ.
«أشغال داخليّة» تظاهرة ثقافيّة ـــــ فنيّة ـــــ فكريّة عابرة للأنواع، بل خارجة على الأنواع والتصنيفات. تحتضن أعمالاً وأشكالاً وقوالب وتجارب على الحدود غير المرئيّة، بين الأنواع الفنيّة. أرست كريستين طعمة، «كاهنة الفنّ المعاصر» في لبنان والمنطقة، تقاليد وممارسات نقديّة وإبداعيّة جديدة على المدينة، وخلقت لها فضاءاتها وتقاليدها، وساهمت في إطلاق عدد لا بأس به من المبدعين، في مجالات مختلفة، فاستحقّ بعضهم التكريس، وبقي آخرون مجرّد ظواهر اخترعتها كريستين طعمة عن غير قصد، وتداولها أحياناً منظمو الأحداث والمعارض الفنيّة حول العالم. إنها مطبّات «الفن المعاصر» تحديداً، إذ يتسع للتجاوز وابتكار لغات وقوالب أخرى، وفرز وعي مختلف، ويسمح في الوقت نفسه، بتكريس بعض «الصرعات» المحليّة التي تفتقر إلى النضج والإتقان والصرامة.
وهذا يجعلنا نسوق ملاحظة عابرة، لا تقلّل من حماستنا للمنتدى، ولا من احتفائنا ببرنامجه الغني والمنوّع والمتوازن هذا العام. هناك خطر قائم، هو «اغتراب» هذا الحدث عن بيئته الأولى، بحيث يبدو المشاركون وجمهورهم أهل جزيرة معزولة عن المحيط، متصلة بالخارج عبر جسور جويّة لتسهيل عبور قبيلة الفنّ المعاصر. يخيّل لبعضنا أحياناً أن هؤلاء يأتون من العالم أجمع، بحثاً عن بضاعة محليّة تناسب أسواقهم، ما قد يخدم لبعض الوقت، بعض الفنانين المحليين... من دون أن يخدم بالضرورة الحركة الفنيّة في لبنان والعالم العربي.
لكن لنعد إلى دهشة الاحتفال. هذا الموسم حافل بالمواعيد الاستثنائيّة مع فنّانين ونقّاد ومنظّرين ومعماريين من العالم، هم بين الأكثر راديكاليّة في طرح الأسئلة واختيار أدوات التعبير عن تلك الأسئلة. بوريس شارماتز، رائد الموجة الجديدة في الرقص الفرنسي، حركة «اللارقص» تحديداً. أنطونيا باير، الكوريغراف والسينمائيّة والبيرفورمر الألمانيّة الآتية من أكثر الحلقات البرلينيّة تجريبيّة. الناقد والمنظّر والموثّق وفنان الفيديو الألماني هارون فاروقي الذي يشتغل على صور الأرشيف وغيرها، يختبر هنا قدرة ألعاب الكومبيوتر على قولبة عقول الجنود الأميركيين.
الياباني كوجي واكاماتسو، الآتي من الياكوزا (المافيا اليابانيّة) إلى الإفلام الإباحيّة وراديكاليّة أخرى، منتج فيلم أوشيما «إمبراطوريّة الحواس»، يستعيد هنا سنوات التطرّف السياسي لدى الشباب في يابان الستينيات. الموسيقي والمعماري والفنان التركي جفديت إيريك يأتيني بمساطر خاصة لقياس زمننا الشخصي. الألماني تيل روزكينس يأخذنا إلى فلسطين، في عمل فيديو تخطيطي (videomappings)، يعيد رسم ستّة مسارات مرتبطة بمخيّم «عايدة» قرب رام الله. الثنائي الفوتوغرافي اللندني آدم برومبرغ وأوليفر شانارين، يقدّم «شيكاغو» (نظرة ثاقبة إلى إسرائيل الآن وهنا) وأعمال أخرى. ما زالت القائمة طويلة: آفي مغربي مشرّحاً آلية القتل الإسرائيليّة في Z32. الثلاثي ساندي هلال ـــــ أليسندرو بيتي ـــــ إيال وايزمان في تجهيز عن «عش غراب» وميكانيسمات الاحتلال الإسرائيلي. بهمان (عباس) كياروستامي في عرض عن «أنصاب إيران» من الشاهنشاهيّة إلى الثورة الإسلاميّة. فاروق مردم بيك وعباس بيضون يعودان بنا إلى الستينيات في جردة حساب متأخّرة. وتكرّ أسماء المحاضرين: جلال توفيق، محمد سويد، نزار صاغيّة، علي فيّاض، توماس كينين، رجا شحادة، ستاري شهباذي، فادي توفيق. الفنانون: مروان رشماوي، حسن خان ومها مأمون (الصورة من أعمالها) ووائل شوقي، يالدا يونس، شيرين أبو شقرا، رائد ياسين، روان أبو رحمة وباسل عباس، آيرين أنستاص، فارتان آفاكيان، غسان حلواني، طوني شكر... ستناقش ندوات الجندر والعسكريتاريا ومناطق النزاع والانتحاريين والتعليم الفنّي... كدنا ننسى الموسيقى وورشات العمل والمنشورات. ما العمل؟ لن يسعنا الإحاطة بكلّ شيء: على كلّ منّا أن يصنع برنامجه الخاص في الأيّام المقبلة.