في معرضه الحالي، تخلّص الرسّام اللبناني من الإملاءات التشكيلية الغربية، وعاد إلى مناخات الشرق. ابن الجيل المسكون بتروما الحرب، تشهد تجربته اليوم منعطفاً حاسماً
حسين بن حمزة
احتلت الحرب أعمال جان مارك نحاس (1963) عشرين سنة من دون ظهور بندقية واحدة فيها. رسم الفنان اللبناني ذو النبرة المتفرِّدة كوابيس الحرب وجراحها ورضَّاتها النفسية التي استمرت حتى بعد توقف أصوات المعارك. بالنسبة إلى صاحب «زمن الحرب/ زمن السلم» ـــــ عنوان معرضه السابق في لندن ـــــ لم يشهد السلم مصالحة حقيقية، فتحولت الحرب إلى تروما مزمنة غير قابلة للشفاء.
لذا نقصد محترفه البيروتي، حيث تُعرض أعماله الجديدة، ظناً منا أننا سنجد طبعة أخرى من جدارياته المصنوعة من عدد هائل من اللوحات المرسومة داخل مربّعات صغيرة، متلاصقة، ومنجزة بضربات سريعة، تكشف مزاجاً مينيمالياً ونفوذاً سيكولوجياً واضحاً.
لوحات تفضح الاستخدام الديني للإيديولوجيا السياسية
يتحقق نصف ظننا بمشاهدة المزاج المينيمالي نفسه، لكن أين اختفت الوجوه المشوّهة والكائنات المذعورة والمسوخ غير المروَّضة التي اعتدناها في لوحاته؟ الجداريات موجودة، لكنها مكتظة هذه المرة ببشرٍ وأشكالٍ لا يظهر الرعب على ملامحها. الرعب القديم تخفّف من كثافته، ورُحِّل إلى لوحاتٍ بقياسات أصغر. الوجوه التي رُسمت سابقاً في مربعات صغيرة نراها مكبَّرة الآن أو منجزة بلقطة زووم. التكبير يجعلها بورتريهات عادية تسمح لنا بمعاينة أدق للملامح. نستطيع، مثلاً، أن نرى كيف كان الوجه الميليشيوي في الحرب قريباً من الصورة الشائعة للمسيح، حيث الشعور طويلة ومنسدلة واللحى نابتة ومهملة. «اللوحات هنا تفضح الاستخدام الديني للإيديولوجيا السياسية»، يقول نحاس الذي لا يزال يرسم بقلم واحد. الأسود هو الطاغي إلى جوار الأحمر. لم ينقلب على نفسه تماماً، لكن تجربته تعيش منعرجاً قوياً. يقول نحاس إنّ ما يرسمه ليس جديداً تماماً. «عدت إلى الموضوعات التي شغلتني قبل إقامتي في فرنسا وكندا. عدت إلى مناخات شرقية ومحلية تعلقت بها وأنا في الـ17 من عمري». لكن لماذا؟ ببساطة، أراد نحاس أن يتخلص من الإملاءات التشكيلية الغربية. «أردت التخلي عن كل ما تعلمته. المؤثرات التقنية والأسلوبية موجودة طبعاً، لكن من دون وصاية غربية تريد أن نكون نسخة مصغرة منها».
يتحدث نحاس عن خصوبة الشرق وثرائه بالألوان والمفردات. عن تأثير السجاد والبيوت التي رآها في حلب القديمة. «الفن العربي مينيمالي وميكروي وقليل الثرثرة. وهذا يلائم مزاجي ونبرتي المتجنِّبة لأي بهرجة أو زخرفة لونية». يقرّ بأن شغله السابق كان كثيفاً ومنغلقاً على نفسه. هو الآن منفتح ومسترخٍ إلى حدٍّ ما. ولكن في الحالتين، لا يستطيع هذا الرسام المُخلِص لتوتّره العصبي والنفسي أن يتخلى عن تحشيد لوحته، وتقليل شواغرها وفراغاتها. نشعر أننا أمام متاهة (Maze) أو مصفوفة رياضية (Matrix)، لكن مع تحطيم خاناتها وجداولها. المصفوفة التشكيلية هنا أشبه بدوامة، أو حلقة تتكرر فيها الأشكال. نجد الوجه أو الشكل نفسه في أعلى اللوحة، ثم في الأسفل، وعلى اليسار واليمين. ما نحسبه لهواً وارتجالاً حراً هو ممارسات شديدة الدقة، كما يقول نحاس: «لو أضفتُ خطاً أو محوتُه، لانهارت اللوحة كلها».
هكذا، يقترب شغل نحاس من أشغال الفنون المعاصرة كالفيديو والتجهيز والرقص الحديث. لا يُنكر ذلك، بل يفاجئنا بأنّ بعض أعمال معرضه الحالي ستكون موضوعاً لفكرة تمزج الرسم بالفيديو والتجهيز. يقول إنه يشاهد هذا النوع من التجارب أكثر من معارض الرسم التقليدية. «أنا ابن الجيل المريض نفسه الذي يتقاسم الجرح النفسي للحرب، مع مجتمع يرفض العلاج ويعيش نوعاً من النسيان غير الصحي».

حتى 30 نيسان (أبريل) ـــــ محترف جان مارك نحاس (التباريس/ بيروت) للاستعلام: 03/608528


العلاج بالرسم

«لا أعرف ماذا سيحدث لي، إن لم أرسم»، يقول جان مارك نحاس. كان طفلاً ذا نشاط مفرط. عانى من ضعف التركيز. تأخّر ترتيبه في المدرسة. هكذا، وجد نفسه منزوياً. فرَّغ الطفل شحنات عزلته على الورق. اخترع وجوهاً كي يُقنع نفسه بأن لديه عالماً آخر وأصدقاء يفهمونه. كان الأمر أشبه بتسلية وألاعيب طفولية. وها هو يعود إلى ذاك العالم المُخترع كي «يتسلى». بطريقة ما، يمكن أن نصف شغل نحاس بـ«الرسم العيادي». اليوم، لم يعد الرسم وحده كافياً لتهدئة مزاجه العصبي. يمارس الرياضة. اقتنى دراجة هوائية يصل بها إلى محترفه، حيث يُفضِّل أن يعرض أعماله بعيداً عن «سياسة» الغاليريات.