يروي المعمار الشاب تاريخ حرج الصنوبر، متّكئاً على كتابات الرحالة في القرن التاسع عشر، وإلى مراجع علميّة تجمع بين الأنثروبولوجيا والعمارة والفن. «عند حافة المدينة» توثيق لذاكرة هذا الفضاء الحيوي، يسلّط الضوء على انفضاض سكان المدينة عن الحيّز العام
جاد نصر الله
«كان هناك حرج. الحرج أصبح مدينة. والبقية أصبحت حديقة. المدينة بدأت حرباً. والحديقة أصبحت من نسج الخيال». هذه حكاية حرج الصنوبر أو «حرج بيروت» كما درج أهل المدينة على تسميته منذ البدء حتّى أصبح ما هو عليه اليوم: حديقة واسعة مسيّجة بالأسلاك الشائكة، ومحظورة على العموم. أما حكاية فادي شيّا مع الحرج، فبدأت قبل خمس سنوات، وكان ثمرتها كتابٌ منوّعٌ يوقّعه المعمار اللبناني الشاب في «مسرح دوار الشمس» بعنوان «عند حافة المدينة: إعادة إحياء الحيّز العام نحو استعادة حرج الصنوبر في بيروت». يهدف الكتاب/ الوثيقة إلى تعزيز الوعي المكاني خارج الأوساط المهنية الضيّقة، ويصدر بدعم من مكتب الشرق الأوسط لمؤسسة «هينرش بُل» وبمبادرة من Discursive Formations.
حرج الصنوبر لجميع أهالي بيروت أم حديقة للمتحضّرين؟
كان شيّا طالباً في «كلية العمارة» في «الجامعة الأميركية في بيروت» يمشي بمحاذاة حرج الصنوبر فاعتراه فضول لاكتشاف ما في الداخل. كان ذلك قبل خمس سنوات. «الدخول من جهة شارع قصقص كان سهلاً. لم أكن أعلم أنّه كان المنفذ الوحيد إلى داخل الحرج»، يكتب في مقدّمة العمل. داخل أسوار الغابة، وجد نفسه أمام فضاء واسع لا يشبه المدينة. تحوّل الحرج إلى مادة لمشروع تخرّجه تحت عنوان «الفضاءات العامة: التاريخ والممارسات الاجتماعية لحرج صنوبر بيروت». نال المشروع جائزة أفضل بحث في العمارة والتصميم خلال المؤتمر الخامس لكلية الهندسة والعمارة في «الجامعة الأميركية في بيروت» عام 2006. الكتاب عبارة عن تحقيق واسع كتب باللغة الإنكليزية، وحتّى المساهمات المكتوبة باللغة العربية ترجمت هي الأخرى، رغم أنّ كتابته بالعربيّة كانت ستجعله متاحاً لعدد أكبر من المعنيين بالحيّز العام. إنّه دراسة توثيقية تسعى إلى نبش الهوية المطمورة للأماكن التاريخية في بيروت. «هو مشروع نقدي معاصر عن الحاكمية/ الإدارة الحضرية والإنتاج المكاني في بيروت، وهو جهد تحليلي وتوثيقي لسياسات الحيّز العام، إضافةً إلى كونه منصة بحثية في القضايا الاجتماعية/ المكانية والاجتماعية/ البيئية المعاصرة». يمثّل الكتاب منصة مساهمة لأعمال نصّية وبصرية لأكثر من 25 أكاديمياً وصحافياً وناشطاً وفناناً شاباً، يسائلون فيها ثقافة المكان من خلال الأنثروبولوجيا، والعمارة، والفن، والجغرافيا الثقافية، والاقتصاد، والهندسة، وتصميم المساحات، والقطاع العقاري، والتخطيط، وعلم الاجتماع والتصميم الحضري...
يستعيد شيّا في كتابه تاريخ الحرج من خلال مدوّنات الرحالة التي تشير إلى أنّ تنظيمه وتطويره يعودان إلى الأمير فخر الدين المعني الثاني. غابة الصنوبر الرابضة على بوابة بيروت الجنوبية، كانت مصفاة تنقّي الهواء المحمل بالغبار والأتربة قبل وصوله إلى قلب العاصمة بيروت. ومع بدايات القرن السابع عشر، أمر فخر الدين الثاني بالبدء بتصميم الحرج من خلال غرس أشجار الصنوبر بطريقة سهلة ومدروسة، لا تعوق حركة المرور، ولا تقطع التواصل البصري مع الأفق. عام 1840، أعلنت السلطات العثمانية، في بيروت، حرج الصنوبر حيّزاً عاماً يحدّد الامتداد الحضري لمدينة بيروت. وفي عام 1878، تملّكته بلدية بيروت. تقلّصت مساحة الحرج شيئاً فشيئاً مع الزمن من حوالى مليون متر مربع عام 1696 إلى 300 ألف متر مربع فقط في عام 1925. يغوص شيّا في التفاصيل، ويسجّل تغيّر مخطط الحرج الهندسي ليصبح ما عليه اليوم: مثلث كبير يمتد من شارع عمر بيهم، تلتف حوله جادة تشرين، وجادة جمال عبد الناصر، ومناطق قصقص والطريق الجديدة والشياح والغبيري والطيونة. لكنّ سكّان هذا الحيّز الجغرافي الواسع لا يرون من «حرج بيروت» إلا السور الحديد العالي والأسلاك الشائكة، فهم ممنوعون من الدخول إليه من دون تصاريح خاصة تعطيها البلدية.
هنا، يضرب شيّا على وتر حساس في مفهموم الحيّز العام: كيف يتحول هذا الأخير إلى محمية خاصة ممنوعة على أهلها؟ 80 في المئة من الحرج مقفلة منذ عام 1990 عند العمل على التصميم الجديد. «حرج الصنوبر هو حيّز عام لجميع أهالي بيروت وليس حديقة «للناس المتحضّرين» أو متحفاً للزهور». الكتاب طعن في الوضع القائم لـ«حرج صنوبر بيروت»... دراسة تسأل في خلاصتها متى توضع سياسة واضحة للحيّز العام ليُدخل في المفكرة اليومية لأهل العاصمة؟

يوقّع فادي شيّا كتابه في السادسة مساءً في مسرح «دوار الشمس» (الطيونة/ بيروت) _ للاستعلام: 01/381290