كتاب نقدي عن الشاعر الذي فضّل الثورة
شرف الدين شكري يعود إلى مسار الشاعر والروائي الجزائري الذي «تقيّأ» الفرنسيّة، وأعلن، قبل محمد ديب، قطيعة صارمة مع لغة الاستعمار

الجزائر ــ سعيد خطيبي
اشتهر مالك حداد (1927 ـــــ 1978) كاتباً باللغة الفرنسيّة في بداياته... ثمّ اشتهر أكثر حين قرر التوقّف عن الكتابة بهذه اللغة غداة استقلال الجزائر عام 1962. ربط صاحب «المأساة في خطر» بين تبنّي لغة بلاد الغال، من خلال الكتابة والكلام بها، ومخلّفات الحركة الاستعمارية التي بدأت في القرن التاسع عشر. ابن مدينة قسطنطينة عاصمة الشرق الجزائري سافر إلى فرنسا حيث درس الحقوق، وعاد إلى وطنه الأم ليشارك في ثورة التحرير الجزائرية.
موقف حداد هذا فرض نفسه كإحدى إشكاليات كتاب جديد لشرف الدين شكري، بعنوان «الحياة هي دائماً... موت أحد ما» (دار أسامة ـــــ الجزائر). يحاول الباحث الجزائري هنا، تقديم مقاربة نقديّة لكتابات مالك حداد في ضوء علم الاجتماع.
يسأل شكري في بداية كتابه: «هل كان (حداد) على حقّ حين نحر الجمال عند مدخل الأيديولوجيا، وتسبّب لنفسه بسرطان التوقف؟». في هذا السياق، يحاول المؤلف الإحاطة بالخلفيّات التي دفعت صاحب «سأهبك غزالة» (1959) إلى التنازل عن مطلب «فرض الذات أدبياً»، والميل إلى تغليب مفاهيم سياسية. قطع حداد أشواطاً طويلة بغية بلوغ «الحوزة الأدبية في المغرب الكبير»، قبل أن يتخلّى عنها. ويكتب شكري أنّ «وعي مالك/ الإنسان الذي تراءت له الكتابة كمتنفّس رئيسي هو بمثابة ردّ الفعل المسؤول والمفتوح على ذلك الوخز اللاحضاري واللاإنساني للجمهوريات الفرنسية الاستعمارية المتعاقبة».
بعدما شارك مالك حداد في المسيرة التحرريّة من أجل الاستقلال، تخلى عن مقاعد الدراسة، في كلية الحقوق في «جامعة آكس ـــــ آن ـــــ بروفانس» (جنوب فرنسا). وكان أن التحق، مع كاتب ياسين والتشكيلي محمد إسياخم، مطلع عام 1954، بصفوف المقاومة الثقافية. خلال حرب التحرير الجزائريّة، كتب حداد في العديد من الصحف، وتولّى تحرير الصفحات الثقافيّة في «النصر» التي كانت تصدر حينها باللغة الفرنسيّة، قبل أن يعيّن أميناً عاماً لـ«اتحاد الكتّاب الجزائريين» عام 1974.
وهنا بدأت نقطة التحوّل الذي سيشهد تنازل حداد عن ماضيه الإبداعي، ليرتمي بين ذراعي العمل السياسي، تاركاً خلفه مسيرة شعريّة خصبة، وصرحاً بناه حجراً حجراً. يكتب شكري عن الصداقة الطويلة التي جمعت حداد بلوي آراغون، رائد المدرسة السريالية، وأحد أبرز وجوه الحزب الشيوعي الفرنسي. هذه الصداقة، إضافةً إلى الأوضاع التي كانت تعيشها فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، وتماسّه مع اليسار الفرنسي، تركت بصمة ملحوظة على أعمال مالك حداد. أصبحت كتاباته «علامة مميّزة يمكن الرجوع إليها في دراسات الكتابات السرياليّة في الأدب الجزائري»، يكتب شكري.
ترك حداد أعمالاً شعرية كثيرة من بينها «الشقاء في خطر» (1956)، «الأصفار تدور حول نفسها» (1961)، وأعمالاً روائية من بينها «الانطباع الأخير» (1958) و«التلميذ والدرس» (1960). أثرت أعماله هذه في حساسيات كتاب جزائريين كثر، منهم أحلام مستغانمي وأمين الزاوي. في أعماله الروائيّة، تطغى اللغة الشعريّة على الحبكة السرديّة، كاشفة عن مواقف شخصية «تتمحور حول الثقافة والحرية، وهما موقفان مترابطان لأن أحدهما يؤدي حتماً إلى الآخر».

انخرط في المقاومة الثقافية إلى جانب كاتب ياسين
لكن يبدو أن قرار مالك حداد القاضي بالتخلي عن الكتابة بالفرنسية جاء انطلاقاً من علاقة مختلفة مع اللّغة. بحسب شرف الدين شكري، كانت «اللغة الأولى التي (ترضّعها) مالك لغة السلطة الاستعمارية المهيمنة ـــــ ولغة الحرية التي فتحت له نوافذ المخيّلة على عوالم إنسانية شاسعة»، وهي اللغة التي «تقيّأها» لاحقاً. هذا ما كتبه حداد مرّة: «أنا الذي أغني بالفرنسية... أيها الشاعر يا صديقي! لا تلمني إذا ما صدمتك رطانتي.../ لقد أراد لي الاستعمار أن أحمل اللكنة في لساني.../ أن أكون معقود اللسان».
يعتقد المؤلف أن اللغة الفرنسية جمعت في لاوعي مالك بين عاملي الحب والكره في آن واحد. ويكتب في ختام «الحياة هي دائماً... موت أحد ما»: «مات مالك إذاً. مات في التزامه الغريب وفي تناقضه الأغرب! قطع وسيلة اتصاله مع الآخرين، ولم تعد الكتابة أداة اتصاله مع العالم، ولا سلاحه الأول في الكفاح والنضال. اعترف بأنّه لم يستطع تغيير مجرى التاريخ».
عندما رحل مالك حداد عام 1978 بعد صراع مع المرض، كان قد ترك نصوصاً من شأنها أن تحفظ ذاكرة الرجل، وتمنح الأجيال الراهنة وعياً بضرورة التمعن والاستفادة من تجارب الإيديولوجيا الذاتيّة، الحماسية والظرفيّة التي تتخطّى الأدب. شرح حداد خياره بكلمات قليلة: «لكي يصبح التاريخ قصص بطولة... لكي يصنع كل إنسان تاريخه بيده... علينا أن نختار بين القيلولة الهادئة إلى جذع شجرة، وانفجار أغنية عنيفة».