Strong>لعنة الماضي السعيد على الخشبة في بيروتالديفا العجوز مستسلمة لتهويماتها، داخل عالم مغلق، غير واقعي، وسط مناخات عبثيّة أليفة، في مدينة واقفة أمام المجهول ولمّا تشفى من جراحها. تجربة نادرة تجمع الروائيّة هدى بركات والمخرج نبيل الأظن، وحوار غير مباشر بين جيلين في المسرح اللبناني

بيار أبي صعب
تتوكأ على العصا، تمشي بعصبيّة شبه هستيريّة، مقوّسة الظهر، بملابسها السوداء والنظارتين الشمسيّتين والقبعة. القبعة ليست تفصيلاً عابراً، بل أكسسوار من صلب العمل المسرحي. «قبّعة إبسن»، كما تسمّيها، تختصر جزءاً من قصّتها مع فنّ الفرجة: تلك العلامة، السيميائيّة نكاد نكتب، انتقلت بين خشبات واستوديوهات شتّى، بين مسرحيات وأفلام ومسلسلات، حسب ما نفهم من هذه السيّدة الغريبة التي لسنا ملزمين بتصديقها... وها هو الأكسسوار نفسه يعيش فصلاً جديداً من فصول حياته الفنيّة الصاخبة، على رأس رنده أسمر، عند البرزخ الفاصل بين تشوّش الوعي وصفاء المنطق. قبّعة سوداء، ربّما، والـDiva بطلة هدى بركات، تعرف ذلك، لكنّها تصرّ على اعتبارها حمراء اللون، فقد ارتدتها للمرّة الأولى حين أدّت دور نورا في عمر آخر، ووحدها القبّعة الحمراء تليق بنورا الهاربة من «بيت الدمية».
العصا أيضاً ليست تفصيلاً عابراً، هي من صلب «حكاية» العمل المسرحي الذي نشاهده ابتداءً من الليلة في «بابل». في الأساس، لم يتخيّلها المخرج نبيل الأظن بعكّاز، تلك الممثّلة العجوز التي تجترّ حياتها المجهضة وأمجادها المختلقة، في فضاء مغلق، مظلم، على هامش العالم. لكنّ رنده أسمر هوت عن الخشبة وهي تحاول السيطرة على شخصيّتها، خلال التمارين. وها هي الممثّلة اللبنانيّة التي تعدّ بين الأبرز في جيلها، تعود إلينا أخيراً ــ بعد نقاهة أدّت إلى تأجيل العروض ــ بندوب جديدة تضاف إلى ندوبها الكثيرة، لتغني بها شخصيّتها المسكونة بلعنة الماضي السعيد.
عصا رنده في الحياة، صارت عصا الديفا على الخشبة. خيبات الممثلة الأربعينيّة القلقة على مستقبل فنّها في مدينة المقاولين، صارت خيبات الديفا التي تجرّ وراءها أوهام زمن بعيد، كان كلّ شيء فيه ممكناً في بيروت. ذلك هو سحر المسرح، وقدرته الخفيّة على خلق علاقات مدهشة بين الأشياء، وتكثيف الصور والمعاني، واجتراح أبعاد جديدة للكلمات والأحداث.
مرثيّة هاذية للزمن الراهن، على أطلال العصر الذهبي لبيروت
وماذا عن خيبات هدى بركات التي تخوض تجربتها الأولى في الكتابة للمسرح؟ الروائيّة المقيمة في باريس تحكي انهيار العصر الذهبي الذي احتضن أحلام جيلها في بيروت. ولعلّ هذا المدخل الأوتوبيوغرافي يأخذنا إلى البُعد الأشمل لنصّها «فيفا لا ديفا». كل ذلك جذب على الأرجح نبيل الأظن الذي أحسن التقاط روح النص، ليحوّله مرثيّة هاذية للزمن الراهن.
صاحبة «أهل الهوى» تزجّ بشخصيّاتها الروائيّة في دائرة الوحدة والوحشة والمرارة. وبطلتها المسرحيّة لا تشذّ عن القاعدة. في فضائها المقفل، ممثّلة في عمر متقدّم، تتحايل على مخاوفها وإحباطاتها. تتمسّك بأوهامها، تعيد اختراع حياتها بعيداً عن الواقع البائس. تنتظر فرصة مستحيلة للسفر «إلى كندا». ترثي لجسدها الذي كبر وصار بشعاً. تستعيد الزمن السعيد والأحلام الضائعة، «على خلفيّة» (العبارة مستعارة من النصّ) مدينة لم تشف من جراحها ولم تخرج من كوابيس الحرب... في بلد كان مرّة يتسع «لغروتوفسكي وأبو سليم الطبل».
في هذا الطقس المسرحي، تمتزج الأزمنة الوهميّة والمعاشة، تختلط مأساتها ومآسي شخصيات تقمَّصتها على الخشبة (أنتيغونا، ميديا، ليدي ماكبث، ماريا كالاس...)، ذاكرتها الشخصيّة وذاكرتها الثقافيّة، معاناتها ومعاناة مجتمعها، معايشات الحرب والطقوس الدينيّة على اختلافها... إنّه مونولوغ تصاعدي تتخلله مواجهات بين الممثّلة وصنوها، أي «الملقّنة» التي تجسّد وعيها الشقي، إذ تحاول سدىً أن تخرجها من تهويماتها وتعيدها إلى الواقع: «إنتِ اللي خلصتِ، زمنك خلص (...) كل الختايرة بيقولوا مبارح كان أحلى، وبيترحّموا عليهالقسم الثاني من العرض سيشهد انهيار الديفا، وعودتها إلى الحقيقة. فالمكالمات تأتيها من هاتف مقطوع ربّما، وابن اخيها قد لا يكون له وجود، ولن يبعث أحد بطلبها إلى كندا... والعرض الوحيد الذي قد يأتيها هو دبلجة مسلسل مكسيكي. تعترف المرأة بتقلبات الزمن، تستسلم لواقعها وجسدها المترهّل واستحالة الهروب حتّى عبر الهذيان. تنتقل رنده من نبرة كوميديّة مضخّمة إلى أداء تراجيدي، تجمع بينهما مناخات عبثيّة أليفة. تحمل النصّ بقوّة، فيأتي أداؤها تحيّة رمزيّة إلى مادونا غازي ورضا خوري ونضال الأشقر... ممثلات العصر الذهبي. لعلّه أيضاً حوار غير مباشر بين جيلين في المسرح اللبناني.
ولا يكتمل الحديث من دون التوقف عند شغل نبيل الأظن (مساعدة الإخراج كارول عبّود، والملابس لبشارة عطا الله). لقد خفّف النص من تفاصيله الواقعيّة، واستغنى عن الديكور «الثقيل» الذي تخيّلته المؤلّفة، ذاهباً إلى التجريد والأسلبة والاختزال. الحجر الأساس في رؤيته الإخراجيّة هو الممثل. وقد ترك للإضاءة أن تنحت الفضاء (راشيل عون)، موظّفاً الفيديو بطريقة ديناميّة (علي شرّي)، خصوصاً في تجسيد «الملقّنة» التي ليست سوى فيديو لرنده أسمر، نشاهده على ملصق Viva la Diva (تصميم هواريان) المعلّق في الوسط. تلاعب علي شرّي على الصوت والصورة بأسلوبه المعهود، ليخلق صلة وصل ما مع التجارب «المعاصرة» التي قامت على أنقاض المسرح اللبناني خلال العقد الحالي في بيروت. هذه التجربة، هي فعلاً كما قال لنا نبيل ــ خلال إحدى البروفات ــــ ثمرة لقاء ناجح بينه وبين رنده أسمر وهدى بركات.

8,30 ليلاً، حتّى ٢٨ آذار (مارس)
«مسرح بابل» (بيروت): 01/744033
www.la-barraca.net