مع إقفال المكتبة التي كانت معقلاً للموسيقى البديلة، تطوى صفحة مهمّة في ذاكرة المدينة الخارجة من الحرب إلى أوهام الإعمار. بيروت، عاصمة المضاربات العقاريّة، تودّع العام ألفين هذا المساء
سناء الخوري
مكنسة كهربائيّة، أغلفة أسطوانات مبعثرة، كراتين مكدّسة، وغبار. في الطبقة السفلية لمكتبته/ مملكته، بدا طوني صفير متصالحاً مع هذه الكراكيب، رغم كلّ شيء. مؤسس La CD-thèque وصاحبها، انهمك في استكمال التوضيب، استعداداً لإقفال المكتبة. في كراتينه، دسّ الأسطوانات والكتب، وطوى معها مرحلةً، وجزءاً من هويّة بيروت الثقافيّة، وأحلاماً كانت واعدة بمساحة للموسيقى البديلة في بيروت. طوى مع كلّ ذلك أيضاً، أوهاماً بالمقاومة الثقافيّة للشركات الكبرى، ولمنطق السوق الذي يدمّر الذوق الجماعي.
في الطبقة العلوية، بعض الروّاد الأوفياء يسابقون الوقت، ويتموّنون مما بقي من أسطوانات في الموسيقى الكلاسيكيّة، والجاز، وقد عرضت بأسعار مغرية... المارة قرب متجر الزهور على الضفة المقابلة للمكتبة في حيّ الأشرفيّة، وروّاد المقهى القريب لا يكترثون لما يحدث في الداخل. لم تلفتهم بهرجة الوردي الفاقع والأخضر الفوسفوري الذي اختارته La CD-Thèque لتعلن على زجاج واجهتها «التنزيلات النهائيّة» والإقفال في 20 شباط (فبراير).
وحدهم الأصدقاء سيلتقون، عند الرابعة من بعد ظهر اليوم، في المكتبة الموسيقية التي كانت من محطّات المرحلة، كي يشربوا نخبها الأخير. على أن تسلّم «لا سي دي تاك» مفتاحها للمالك الأسبوع المقبل.«سيفتح مكانها مطعم على الأرجح... المطاعم تجارة مربحة»، يعلّق أديب رحال، الشاب الهادئ الجالس خلف الصندوق.
عبر التسجيلات المختارة بعناية، صاغت «لا سي دي تاك» هويتها ومشروعها. تحوّلت من متجر موسيقى عادي، إلى فضاء ثقافي بديل، تماهى معه الفنانون الشباب. في العقد الأخير، استحال المكان واحةً للباحثين عن فضاءات بديلة صامدة في وجه هيمنة النمط الواحد في الفكر والذوق و... الموسيقى. وجد فيه الداعمون للمشاريع المحليّة الصغيرة قِبلتهم، والنقيض الثقافي لشبكات المتاجر الضخمة. الزبائن الأوفياء سيفتقدون «أفضل متجر للموسيقى في البلد». يتحدث بعضهم عن موظفي المكتبة بنبرة التقدير. «هؤلاء صنعوا هويّة المكتبة الخاصة». بالفعل، أوجد زياد نوفل، ورائد ياسين، والزميل بشير صفير، وسيرج يارد، وفادي طبال، وعبد الله المشنوق، وعبد قبيسي، وزياد حلواني، وغيرهم ممن عمل لسنوات في أروقة الـ«سي دي تاك»، خلطةً سريّة جعلت الزبون يتعاطى مع المكتبة كفضاء مرجعي، لا قرين له في العالم العربي. كان هاوي الموسيقى يجد في تصرّفه هنا الكاتالوغات الكاملة لشركات عالمية مثل ECM، FMP، وHyperion... ويجد في تصرّفه باعةً متخصّصين ومهووسين بالموسيقى لإسداء النصح. هذه على الأقلّ الفكرة التأسيسيّة لـلـCD-Thèque...
ستعود بصيغة جديدة تجمع بين المكتبة والمقهى
ألم تصدر المكتبة، سنة 2001، مجلّة موسيقيّة متخصّصة بعنوان Commusication، تولّى تحريرها ميشال حاجي جورجيو، وصدر منها ستة أعداد؟ وزّعت مع ثلاثة من أعدادها أسطوانة مجانيّة حملت أولها عنوان «بيروت Incognito». كان العمل الباكورة الموسيقيّة المسجّلة لأسماء أصبحت اليوم بارزة على صعيد الموسيقى المحليّة البديلة، من soap kills، و«عكس السير»، و«ريس بيك»، وScrambled eggs ، إلى زياد سعد، وBlends. أما إصدارها الثاني Jazz is alive فعني بالجاز، وضمّ بعض رواده المحليين والعرب مثل أرتور ساتيان، وجويل خوري، ورامي خليفة...
«أصبح الصحافيون الأجانب القادمون للتعرّف إلى «موسيقى لبنان اليوم» يقصدوننا مباشرة»، يخبرنا طوني صفير. مع الوقت، كان طبيعياً أن يتجه صفير نحو إطلاق شركة إنتاج لاحتضان الانتاجات الشابة والمغايرة. هكذا أبصرت النور Incognito التي تناولناها مراراً فوق هذه الصفحات. أصدرت مثلاً، أعمالاً للينا شماميان، وحازم شاهين، وفتحي سلامة، وزياد أحمديّة، وكنان العظمة... ووسّعت «لا سي دي تاك» نشاطها (تشتت يقول بعض المنتقدين) من الموسيقى إلى الكتب، فأصدرت باكورة سحر مندور «سأرسم نجمة على جبين فيينا»، وتفرّدت بنشر الترجمة العربيّة لكتاب الشرائط المصورّة «برسيبوليس» للإيرانيّة مرجان ساترابي. نستعيد اليوم هذه المحطات كمن يؤرّخ لتجربة منتهية...
بدأت كل هذه المغامرة من دكان صغير، في كاراج منزل طوني صفير العائلي في عجلتون (المتن). يوم افتتح متجره الأول في 15 آب (أغسطس) 1996، كان في التاسعة عشرة، وكان يتعامل مع تشكيلة الأسطوانات التي بحوزته كمكتبة موسيقيّة شخصيّة. تنبّه بعد فترة إلى أن متجره بعيد عن حركة الزبائن المعنيين، فانتقل إلى الكسليك (شمال بيروت). هناك توسّعت الأعمال، فافتتح صفير فرعاً ثانياً في الأشرفيّة عام 1999. وفي المرحلة نفسها، وجد الفرصة مؤاتية ليفتتح فرعاً في ABC ضبيّة، وأغلق فرع الكسليك. مطلع 2001، بدأ الحديث عن قرب افتتاح الـ«فيرجين»، فقرر صفير استباق المنافسة، ونقل فرع الأشرفيّة إلى متجر أكبر في الشارع الذي يقابله، هو المتجر الحالي الذي عرف شعبية واسعة. هنا، راح يبيع الكتب والمجلات والأفلام، واحتضن تواقيع أسطوانات لريما خشيش، وتانيا صالح، وشربل روحانا، وربيع أبو خليل، وأحمد جمال، وسعاد ماسي... ولقاءات ثقافيّة أخرى. افتتحت المكتبة فرعاً آخر في الحمراء عام 2003، استمرّ خمس سنوات قبل أن يغلق أبوابه. بعد الاغتيالات التي عصفت بلبنان، أقفلت الـ«سي دي تاك» في ABC عام 2006 قبل حرب تمّوز، وبقي متجر الأشرفية المعقل الأخير لمحبّي الموسيقى.
قبل أشهر، أعلن طوني صفير نيته إغلاق الـCD-Thèque، وبدا أن السوق نجحت في ابتلاع أوهام الثقافة البديلة كما راودت هذا الشاب الذي شاخ بين أكداس الأسطوانات. «ارتفعت أسعار الإيجارات ارتفاعاً مخيفاً في بيروت. قرر المالك رفع بدل الإيجار، وهذا ما لم يكن لنا طاقة على احتماله»، يشرح صفير. إنّه «السبب المباشر للإقفال»، يقول. «أمّا السبب الأساسي، فهو أنّ مبيعاتنا انخفضت ستين في المئة، بفعل كساد سوق الـ «سي دي» في العالم كلّه». هل ذهبت «لا سي دي تاك» إذاً ضحيّةً للتطوّر التكنولوجي؟ العوامل الخارجيّة كانت سبباً كافياً للإقفال، لكنها لم تكن السبب الوحيد. هذا ما يوحي به عبد الله المشنوق، أحد الذين عملوا طويلاً في المكتبة: «سوء الإدارة أدّى دوراً في الإقفال. وها هي التجربة تعود اليوم دكاناً صغيراً كما كانت حين انطلقت قبل 14 عاماً».
وبالفعل، ستعود La CD-Thèque قريباً، لكن بصيغة جديدة تجمع بين المكتبة والمقهى في حيّ مار مخايل (النهر ـ بيروت) الذي بات اليوم على الموضة. صيغة يريدها طوني صفير مكاناً أكثر حميمية للنقاش في الموسيقى. «هل ستنجح المكتبة الجديدة في استعادة الزبائن القدماء، واستقطاب سواهم؟»، يسأل زياد نوفل. ويضيف: «هل المشكلة في المكان؟... أم في الناس الذين لم تعد تغريهم الموسيقى الجادة أو البديلة؟».

ابتداءً من الرابعة بعد ظهر اليوم، وحتّى التاسعة ليلاً، يلتقي أصدقاء La CD-Thèque للمرّة الأخيرة في مقرّ المكتبة في الأشرفيّة (بيروت)، لشرب نخب الوداع ـــــ للاستعلام: 01/336709


«أزمة عالميّة»

شراء الأسطوانات عبر الشبكة العنكبوتيّة، دخل نهائيّاً في السلوك والتقاليد، فضلاً عن إمكانات لا تحصى لشحن الموسيقى عبر الإنترنت، بطرق شرعيّة أو مقرصنة. إذا أضفنا إلى ذلك انتشار النسخ غير الشرعي على نطاق كوني، يمكن أن نفهم كيف انخفض مبيع الأسطوانات في العالم إلى أكثر من النصف خلال العقد الأخير. حتّى شبكات المتاجر العالميّة مثل HMV البريطانيّة الشهيرة، أقفلت فروعها... Virgin نفسه حجز متجره الشهير في «تايم سكوير» في نيويورك فاحتلّه باعة الملابس.