في «رؤية نقدية لكتاب السُنّة والإصلاح للدكتور عبد الله العروي» (الدار العربية للعلوم ــ ناشرون)، يتصدّى عبد السلام محمد البكاري والصديق محمد بو علام للمفكّر المغربي المعروف، الذي رأى أن استعصاء الإسلام على التغيير يعود إلى تاريخه لا إلى النص المقدس
ريتا فرج
أعادنا كتاب «رؤية نقدية لكتاب السُنّة والإصلاح للدكتور عبد الله العروي» (الدار العربية للعلوم ـــــ ناشرون/ بيروت ـــــ الدار البيضاء) إلى أطروحة ابن رشد «تهافت التهافت» التي صاغها في القرن الحادي عشر رداً على «تهافت الفلاسفة». الغزالي الذي ألغى قانون السببية منتقداً أهل الحكمة وفلاسفتها، خلص إلى أن الأدلّة المنطقية لا تكفي لمعرفة العالم والذات الإلهية.
وها هو عبد السلام محمد البكاري والصديق محمد بو علام يدشّنان معركةً نقديةً في كتابهما المشترك، معترضين على المنهجية التاريخانية التي اتبعها العروي. بعدما حشدا أهم التساؤلات التي صاغها المفكّر المغربي المعروف (ما هي علاقتنا بتاريخنا؟ وكيف فهمنا هذا التاريخ؟ كيف كانت علاقتنا بالأديان الأخرى؟ وكيف تعاملنا مع تعددنا من مذاهب وشيّع؟)، يجيبان عليه من خلال استحضار علاقة الرسول بالجماعات الدينية الأخرى، إبان حقبة الإسلام المبكر التي تأسست على قاعدة التلاقي والمساواة ووضع المعاهدات، عملاً بالآية القرآنية «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتُقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين».
لكن ما هو تفسير المؤلفين لِما ورد في القرآن «وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وعدوّكم»؛ و«قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون»؟ ألا توفّر هاتان الآيتان في سورتي الأنفال والتوبة مشروعية النهج التاريخاني الذي اتبعه العروي في قراءة الظاهرة القرآنية؟ وألا يعني ذلك أن كتاب الله جاء جواباً على التحولات التي مرت بها الجماعة زمن النبي في علاقتها مع الديانات الأخرى، وخصوصاً أن حقبة نزولها جاءت بعد الهجرة إلى المدينة؟ ما خلق مرحلة مختلفة عن سابقتها ودلّ على أن علائق المسلمين بأهل الكتاب ارتبطت بالسياق التاريخي، وهو الأمر الذي يستدعي الأخذ بمنهج العروي الذي يفسر النصّ من دون إلغاء قدسيته؟
في الباب الأول من الكتاب «افتراءات عبد الله العروي، مصادرها منطلقاتها غاياتها»، يستشهد المؤلفان بآراء بعض دارسي التراث الإسلامي، أمثال محمد عابد الجابري، الذين عابوا على العروي اعتماده «الماركسية التاريخانية» كمحاولة لإدخال المنظومة الإسلامية في الحداثة، علماً بأنّ التاريخانية تسعى إلى الإحاطة بالوقائع الإنسانية من خلال ظروفها التاريخية. فأين أخطأ صاحب «السنّة والإصلاح» في دراسته للتاريخ بطريقة عقلانية قد توفر الآلية الناجعة لتخطّي الانسداد الراهن؟
يجادل المؤلفان العروي في العديد من الموضوعات الواردة في كتابه «السنّة والإصلاح»، كمعالجته للصفات الإلهية، إثر محاولته النظر إليها بصفة تجريدية، مجترحاً آلية التأويل التي تسبغ عليها بعداً رمزياً. ويرى المؤلفان أن ما ورد بشأن الذات الإلهية التي تصف نفسها بالسمع والبصر (ليس بمثله شيء وهو السميع البصير) لها دلالة مباشرة. والمعروف أن التطرق إلى هذه الإشكالية بلور جوهر الصراع المذهبي والعقائدي بين المعتزلة والأشاعرة، وتحديداً حين دار الجدل بينهما حول أن الله استوى على العرش، فالأولى تتجه نحو التجريد، أما الثانية فتقول بالتجسيد أو المادوية، أي كون الشيء مادياً قابلاً للمادة.
ويردّ المؤلفان على ما قاله العروي عن أنّ علماء الحديث سعوا الى إرضاء الطبقة الحاكمة الهادفة إلى تغيير السلطة، فيجزمان بأن الإسلام منح الأمة حقوقاً سياسية حيث بُني الحكم على أساس الشورى. وهنا نجدنا نتساءل مع العروي ومع منتقديه، ما معنى الإنتاج الفقهي السياسي الكثيف أو ما عُرف بالآداب السلطانية

نقاش في السُنّة والاجتهاد وحقوق المرأة في الإسلام
التي رسّخت الملكية الوراثية منذ العهد الأموي، فمهّدت لتأسيس المُلك العضوض (المراد به التعسّف والظلم)؟ ألا يعني ذلك أن العروي قارب الحقيقة في العديد من جوانبها، بدليل أن الحراك السياسي المتسارع الذي شهدته الحضارة الإسلامية في مراحل انتقالها بين العصر الأموي والعباسي والأندلسي هو الذي أفقد السلطة مركزيتها بعد تجوالها بين الشام وبغداد والأندلس، ما دفع صاحب «السُنّة والإصلاح» إلى الخروج بنتيجة استمالة الحكام للعلماء على قاعدة قراءة هذه المسألة ضمن سياقها التاريخي.
العلاقة بين عقيدة التوحيد واستبداد الحاكم، ومدى قابلية أهل السُنّة للاجتهاد، وحقوق المرأة في الإسلام مثّلت أبرز المحطات النقدية التي شنّها بو علام والبكاري على أطروحة العروي الذي اعتمد في دراسته هذه الإشكاليات على المنهجية العلمية، ثم خرج بمقولة أن نصوصية الإسلام، أي استعصائه على التغيير، تكمن في تاريخه لا في النص المقدس...
يبقى أن كتاب «رؤية نقدية لكتاب السُنّة والإصلاح» يغلب عليه الخطاب الإنشائي في العديد من معالجته لأفكار العروي. فلو تبنّى المؤلفان منهجية علمية تقضي بمقارعة استنتاجاته بطريقة المقابسة العقلية، لجاء النقد أكثر إقناعاً لقارئه. لكنّ البكاري وبو علام لم يطبّقا قاعدة «ألا تعقلون» الواردة أكثر من 20 مرة في القرآن، ولم يلحظا ما دعا إليه النبي حين قال: مَن اجتهد فأخطأ، فله أجر.