محمد خير«ثلاثة نمور حزينة دخلت شقتي وراحت تتجول ببطء ورؤوسها منكسة... هذه مقعدة الحمام البيضاء... هذا هو المطبخ والأواني وبقايا الطعام. هذا هو السرير، وتلك هي الملابس ملقاة في أنحاء الحجرة. ثلاثة نمور حزينة جلست على الكنبة الموضوعة في الصالة ريثما أعدّ الشاي»... يدخل أحمد زغلول الشيطي نصوصه من حيث لا نتوقع، ويغادرها، غالباً، بالصيغة المفاجئة نفسها. قد يتركها في منتصف اللحظة، أو يجلس متأملاً عوالمها في صورة متكررة: معتمة وصامتة. النتيجة نصوص قصيرة أو بالغة القصر، مكثفة دائماً، شعرية أحياناً. قصص؟ هذا ما كتب على الغلاف، لكنها ليست قصصاً في كثير من الحالات. النصوص متشابهة ــــ وغير متساوية ــــ في الحالة، أو في العالم، أو حتى في المستوى الفني... فإن كان «النوع» يتراوح بين سرد ونثر، وإن كان وصف القصص ليس دقيقاً تماماً، فإن الأكثر دقة بكثير هو عنوان الكتاب «ضوء شفاف ينتشر بخفة»، إذ نقرأ معظم النصوص في ضوء ذاكرة متخيلة وشاحبة. العبارات القصيرة المكثفة تحدث تأثيرها بمنتهى «الخفة»، وتقتات على الصور التي يبثها الماضي الحقيقي أو المتخيّل.
المجموعة الصادرة عن «دار ميريت» (القاهرة)، يهديها مؤلفها إلى روح الروائي المصري يوسف أبو ريّة، وتضمّ 50 نصاً في أقل من 80 صفحة. منذ النص الأول «قمر فوق الميناء»، نجد الإشارة واضحة إلى طبيعة الكتاب وروحه: الراوي في سيارة «ميكروباص» في ميناء ما، ثمة أجانب آسيويون وامرأة وطفل، نخيل وخيام بدو، والقمر مغبش في ليل ناعس. ثم «توقفت السيارة على صوت فرملة حادة ارتجّ الجميع على أثرها... كان صف طويل من الأبقار والأغنام يقطع عرض الأسفلت مخلّفاً سحابة خفيفة». هنا، ينتهي النص الذي لم يتجاوز صفحة، الحكي يصل بين المشهد الليلي في مكان/ بلد لا نعرف كنهه، واللحظة التي وحّدت الجميع. يكتسب السرد طاقته الفنية بالأساس من التفاصيل البصرية، وهو ما يتكرر على امتداد الكتاب. ثمّة الكثير من الوصف لبيوت قديمة بقيت أو فنيت، ثمة عمال، وفلاحون، وباعة، ومدن، وآثار وكنائس، وجوه متنوعة وديعة أو ذابلة، وحكايات تكتسب جوهرها من كونها

المجموعة مهداة إلى الراحل يوسف أبو ريّة

مقاطع عرضية في حكايات أكبر يمكن لنا أن نتخيلها. هذا ما نجده في نص «عنقود عنب»، عندما يقول رجل عن الراوي «يبدو أنه يعرفني ويعرف محنتي، وأنني جائع وبلا مأوى»، ثمّ يخرج من كيسه القماشي عنقود عنب يمنحه للراوي، يستدير ويذهب. «وقفت أنظر إليه إلى أن غاب. قطفت حبة عنب، مضغتها، رطب فمي طعمها السكري». من أين جاء الراوي وإلى أين يذهب؟ حتى الرجل الطيب نفسه، لا نعرف عنه شيئاً ولا يبدو ذلك ضرورياً. نرى ذلك بصورة أوضح في «مفتاح قديم»، القصة التي تمتد، استثنائياً، لخمس صفحات. يجد بطلها نفسه محتجزاً في بيت شبه أثري مهدم ومظلم، بين اثنين لا يكاد يعرفهما، ثمّ يسقط داخل بئر قديمة أسفل البيت. يسير داخلها متحسّساً طريقه في العتمة والماء البارد، وأصوات المحتجزين في الأعلى تؤكد أن البئر القديمة يصل مجراها إلى النيل...
نحن ــــ كالعادة ــــ لا نعرف ماذا يفعل الجميع هناك بالضبط. عمَ يبحثون؟ كنز؟ المهم هنا هو لحظات هلع تتصاعد في العتمة. رغم المشهدية المهيمنة، إلّا أن النصوص هنا تحتدم بالأساس في دواخل أبطالها.