«ليلة الدخول إلى الجنة» (دار الريس) رواية الفصام باميتاز. إنّها قصّة المثقف اليساري الذي يعيش حياته مع المومسات، ثم يقع في غرام «فتاة عذراء»
نوال العلي
مَن هو محرر «دار رياض الريس»؟ إن وجد طبعاً؟ السؤال وإن بدا موجّهاً إلى دار معيّنة بسبب عرض كتاب من إصداراتها، إلا أنّه سؤال عام عمّن يُحرِّر في دور النشر العربية؟ والمحرر هنا ليس بمعنى الرقيب طبعاً، بل بمعنى القارئ الحقيقي للعمل والمخوّل إبداعياً وفكرياً ونقدياً إعادة ترتيب العمل وتحريره واختصاره إن اقتضت الضرورة، وكذلك الإضاءة على مواطن الضعف فيه... فمَن هو هذا المحرر؟ وهل هو شخصية موجودة وما اعتباريتها في هذه الدور أصلاً؟
رواية «ليلة الدخول إلى الجنة» (دار الريس) للبناني روكز اسطفان نموذج حيّ على حاجة الروائي إلى هذا الشخص. أنت تقرأ عملاً فيه الكثير ممّا يلفت الانتباه، على صعيد البنية واللغة السردية، ومما يستوقف في أسلوب اسطفان تنقّله بين المواقف والأحداث في الرواية والذكريات، من دون أن تشعر بأن ثمة قطعاً أو التفافات صعبة. الأحداث تنساب وتتدفق مترافقة مع الأفكار.
مع ذلك، يتسلل الملل إلى القارئ من مكان ما. إذ يسترسل الكاتب في ما يمكن تجاوزه، أو قوله في صفحة واحدة ليستغرق صفحات وفقرات تدور حول فكرة واحدة. حالة تتسبب في إفلات لغة السرد منه والاستناد إلى كليشيهات أو تكرار ممل. وخير مثال على ذلك الصفحات من 26 إلى 30 التي تتناول فكرة جزئية متعلقة بالموت يرويها الكاتب على لسان الشخصية «كأن التفاهات التي تحيط بحياتنا لا تكفي، فنضيف إليها صورة الموت... أليست الصور في البال أجمل بكثير من الصور الجامدة المعلقة على حائط! أليست صور موتانا....». وفي موضع آخر يستغرق صفحات ليقول «كان يُربط تخلف المجتمعات بتخلف المرأة، وتقدمها بتحريرها، بمساواتها بالرجل، بإعادة الاعتبار إلى كيانها، باحترام استقلاليّتها والاعتراف بحقوقها...» (ص 156). فأيّ أسلوب تعليمي ركيك يفقدنا الثقة بالروائي وتفحّصه لكتابته؟ في المقابل، كان صاحب «خطف كلب أميركي» مبتسراً في مواقع مكتنزة ومؤهّلة لخيال سردي جامح. لنرَ إلى مقطع عن علاقة العاهرات باللغة الذي كان يمكن أن يتخذ له مساحة أوسع وأجرأ وأخصب «العلاقة بين القحبة وزبونها علاقة لا مثيل لجمالها. اللغة التي يتبادلانها لغة منفلتة على مداها، تحطم كل الممنوعات والمحرمات التي تنوء اللغة عادةً تحت أثقالها. لغة القحبة هي لغة الثورة بعينها ...» (ص 78).
الرغبة والشبق يجاوران الخوف من الموت
هذه المآخذ ـــــ إن اعتُبرت كذلك ــــ كان يمكن تجاوزها مع وجود المحرر لإنتاج رواية محكمة، تجعلها بساطة قصتها مؤهلةً لأن تكون قصيرة ومكثفة. إذ إنّ حبكة «ليلة الدخول إلى الجنة» ليست معقّدة فعلاً. وإن كان العنوان يوحي بليلة حمراء، فهذا الإيحاء صحيح تماماً، فليلة وفاة الشخصية الأساسية هي ليلة زفافه. في الحقيقة، نكتشف أثناء التواصل مع سرد اسطفان سراً جميلاً في لغة الكاتب. رغم أنها ليست لغة إباحية أبداً، إلّا أنّها تتمتع بشيء من «الزعرنة» الخفيفة التي تظهر فعلاً حقيقة شخصية العالم الذي يعيش فيه أستاذ جامعي مثقف محسوب على اليسار، يعيش حياة جنسية غنيّة ووقحة أيضاً. وهو طيلة الوقت «ينكح» عدداً من «القحبات» ثم يقع في حب مومس أثناء إقامته في باريس، ليعيش مع نتالي قصة حب جامحة حتى لحظة وفاتها. ثم يدخل في سلسلة علاقات ماجنة في ماخور نانا ومع شخصيات مختلفة: فيكي تموت أيضاً في الرواية، ثم ليزا، وحتى زوجة صديقه إيليا. النساء في الرواية كيانات جنسيّة فقط يعطي لكل واحدة اسماً أو صفة تدل عليها كأن تكون «الأوكرانية». وهن موجودات في واقع هذا المثقف المدّعي، بصفتهن اللازمة للقضيب المنتصب فقط، وتنكشف كل ادعاءاته عن موقفه الحضاري من المرأة مع مرور الوقت.
تفعل الشخصية كل ذلك متحرّرة من أي أحكام أو قيم حول الأخلاق والخيانة والشعور بالذنب، مندفعة بكل ثورية مزعومة في هذا الاتجاه. وتظل هكذا حتى لحظة اللقاء بـ لولو: فتاة، كل ما يميزها أنّها عذراء تصغره بـ 35 عاماً. هكذا نشهد لحظة ولادة الإكليركي العائد من الجحيم، وهو يعيد النظر في إلحاده والنسق الذي اتخذه لطراز عيشه فيعود للاستسلام لمعقل الزوجية مع عذراء تنتهي حياته قبل أن يفضّ بكارتها.
«ليلة الدخول إلى الجنة» رواية عن الحياة قبل الموت بقليل. هذه العبارة قد تحمل وصفاً مبدئياً ومنصفاً، في رواية تترافق فيها الرغبة والشبق مع الخوف من الموت.