معرضها في «كتّانة ـــ كونيغ» بين الإيروسيّة وذاكرة الحرببيار أبي صعب
حملت لميا زيادة (١٩٦٨) عالمها النسائي الصادم، السرّي والأليف، المثير والطريف، وحملت أيضاً ندوب الذاكرة المسكونة بظلال الحرب، لتحطّ رحالها في بيروت بعد فراق ٢٣ عاماً. الشابة التي غادرت موطنها، مع بداية الحرب الأهليّة، في الثامنة عشرة، لتشقّ طريقها في باريس (مقرّ إقامتها)، هي اليوم فنّانة مكرّسة، تملك سجلاً من الإنجازات في مجالات تشكيليّة وغرافيكيّة مختلفة. لكن معرضها البيروتي «دخان»، وهو الأوّل في مسقط رأسها (إذا استثنينا مشاركة عابرة في «متحف سرسق»، ٢٠٠٦)، وفي العالم العربي الذي يمثّل مصدر وحيها، يسدل عليه الستار بعد غد في «غاليري كتّانة»، من دون أن يلقى الاهتمام الإعلامي والنقدي الذي يليق بهلميا زيادة حالة خاصة بين فنّاني جيلها. أوّلاً، لجهة الجرأة في ارتياد عوالم الرغبة والشهوة والتعبير عن الجسد والأنوثة وأيقونات الحياة اليوميّة، والديكور المنزلي الحميم، من خلفيّة مرتبطة بالعالم العربي ـــــ الإسلامي على مستوى المواضيع والشخصيات والإشارات، والروائح والأحاسيس والمناخات. لكن قبل ذلك، وربّما كان هذا الأهمّ: تنبع خصوصيّة هذه التجربة من اللغة الغرافيكيّة والأسلوب التشكيلي، والتقنيات والمواد والوسائط المستعملة، والمراجع الجماليّة والإحالات الذاتيّة المختلفة. تتميّز زيادة أيضاً بتعدد الاهتمامات والمشارب بين الغرافيك ديزاين (تصميم الملصقات وأغلفة الأسطوانة) وعالم الموضة (رسمت أقمشة لجان بول غوتييه وإيسّيه مياكي) والإعلانات (شركة السكك الحديد في فرنسا مثلاً)... بين رسوم كتب الأطفال، وأعمال فنيّة مختلفة خاصة بالراشدين!
منذ معارضها الأولى، رسمت الشهوة من وجهة نظر أنثويّة. صارت فنّانة الداخل الأنثوي بامتياز، ترسم الجسد كمن يعرّي الجنس، كمن يحاول سبر أغوار الرغبة، وميكانيسمات اللذة النسائيّة. تدعونا إلى فضائها الحميم، أو بالأحرى تترك الباب نصف مغلق كي نتلصّص على شخصيّاتها في الخلوة. تتلاعب مع (قلّة) الحياء، تهدي الجسد الأنثوي للأنظار، في لحظاته السريّة، مازجة بين الشبق والسذاجة الطفوليّة والبراءة...
الفنّانة المولعة ببرنار كوهين ولو ريد وسيرج غينسبور، تستعمل غالباً الأغنيات في أعمالها المتمحورة حول الداخل الأليف، والأنوثة المسترخية، ورائحة الرغبة والضجر والعطور الشرقيّة. ترسم باستمرار نساءها المتلذّذات بوحدتهن، مستسلمات لرغباتهن وتهويماتهن الجنسيّة. المرأة تداعب نفسها أحياناً، تستلقي غالباً عارية على ظهرها، كما نساء ماتيس، وقد فتحت فخذيها. تُشغل زيادة بنسج الديكور المنزلي الأليف بأدقّ تفاصيله، الأرضيّة والأثاث، والنافذة والمزهريّة والطاولة، والأقمشة. كثير من الأقمشة المنقوشة. إنّها مهووسة بالأقمشة، من خلالها تقول عالم الرغبة وبها تشيّد امبراطوريّة الحواس، في الغرف السريّة، والصالونات الأنيقة، والفضاءات المدينيّة المترفة ذات السينواغرافيا المدروسة بعناية. هناك أيضاً أحمر الشفاه والفساتين والأحذية النسائيّة، الفراء والمخمل، الزهور وقارورة العطر، علب الدخان والمسكّنات وزجاجة الويسكي...

أنجزت مجسمات كرتونيّة لفنادق العاصمة، وقد «سكنها» مقاتلون في حرب ماضية

الطفلة التي كانت تحلم أن تكون راقصة كاباريه، بقيت مولعة بـ«الكيتش» في شتّى تجليّاته. نانسي عجرم وإليسا وماجدة الرومي وفيروز ونجوى كرم ووردة، كلّهنّ في المعرض البيروتي في رسوم غواش أو كولاجات قماش على قطع شاش. وهناك دائماً في أعمالها ستراس وأضواء نيون وفساتين وأحذية ذات كعب مسنّن وزينة، وفراء وحرير وتفتا ومخمل، للإحاطة بالجسد المكشوف للأنظار الغريبة. أخذت لميا حسّها الفنّي عن جدّها تاجر الأقمشة، وهي تكثر من استعمال الأقمشة والنقشات، في الكولاج والمونتاج وكل أشكال التركيب. ألوان زاهية، وتلوينات بسيطة، حسيّة، آتية من ذاكرة طفوليّة، تخلق تناقضاً صاعقاً بين فجاجة الموضوع الذي يتمحور حول الشبق... والقالب الفنّي الساذج والعفوي والبريء الذي يغرف من جماليّات البوب آرت.
يجمع معرض «دخان» بين المنافض والسجائر الكثيرة في المشاهد الداخليّة التي تحمل اسم أحياء وأماكن في المدينة (تباريس، عجرم، سان جورج...)، وحرائق المدينة في ذاكرة فنّانة يسكنها الحنين إلى حرب بعيدة. ذلك المنعطف في تجربتها يعود إلى العام الماضي حين قدّمت معرض «حرب الفنادق»، مستعيدة ملصقات الترويج لفنادق بيروتية عريقة (ألكازار، مارتينيز، سان جورج...)، لتزرعها جنوداً ومتحاربين على الأسطح والشرفات. كذلك أنجزت مجسمات بالكرتون المقوّى لفنادق العاصمة (إكسلسيور، إلخ)، وقد «سكنها» المقاتلون على طريقتهم. ونترقّب هذه الأيّام صدور كتاب للفنّانة بعنوان «كبريت المدفع» (نص ورسوم)، عن الموضوع نفسه.
معرض بيروت جاء خليطاً من تلك المرحلة ومن شغل الفنّانة الإيروسي، الأنثوي، المصنوع من الأقمشة المختلفة والقصاصات والتلوينات... وضمّ أعمالاً تعكس مناخات معارضها السابقة، وصولاً إلى أحدثها Time for Kent (٢٠٠٨). كأنّ لميا زيادة جاءت إلى بيروت بشيء من الخفر الذي يصاحب الإيروسيّة غالباً، وبكثير من الحنين إلى الحرب التي طبعت ذاكرتها، وابتلعت مدينة مراهقتها الضائعة...

فنّانة إيروسيّة... وامرأة «غير لائقة سياسيّاً»قبل ذلك بسنوات، شاركت زيادة بأعمال عدّة في معرض نسائي جماعي في سويسرا (مركز الفنّ المعاصر، نوشاتيل، ٢٠٠٤)، لم يقبل أحد باستضافته في فرنسا، بعنوان «بنات، بنات، بنات...». هنا أيضاً قدّمت الفنّانة اللبنانيّة أعمالاً صارخة في قدرتها على مزج مشاهد الجنس الإباحيّة بلحظات الحياة اليوميّة وأشيائها وأثاثها. في لوحة «حذاءان أحمران، أغنية زرقاء» مثلاً (رسم وكولاج على ورق، ٢٠٠٤)، تتصاعد من المذياع أغنية عربيّة تسرّبت كلماتها على طول اللوحة، فيما المرأة شبه عاريّة في وضعيّة موحية جدّاً. أما الرجل، فكما هو الأمر غالباً، خارج المشهد، لا نرى إلا يده تمسك بأسطوانة.
الخطوة الأولى في هذا السياق كانت كتابها «أقصى استعمال للرقّة» (لوسوي، ٢٠٠١)، الذي ضمّ رسوماً إيروسيّة بتوقيعها، مرفقة بنص للكاتب فانسان رافاليك... هنا تبلور موضوعها الأثير، وكانت رسَمت خلال إنجاز مشروع دراستها الأكاديميّة مطلع التسعينيات مشاهد إباحيّة من رائعة بروست «البحث عن الزمن الضائع».

قدرة على مزج مشاهد الجنس باللحظات اليوميّة

وإذا بالإيروسيّة علامة فارقة في تجربتها منذ المعرض الأوّل «لا أريد لأحد أن يعرف » (٢٠٠٣)، ثم في «أنا سعيدة جداً لأنّك وجدتني» (٢٠٠٦). الفنّانة التي تردّد أنها تشعر بالاعتزاز لكونها امرأة عربيّة، تعترف بأنّها في كل النساء اللواتي ترسمهنّ، كما أن كل الأشياء في اللوحة تملكها في الحقيقة. وهي تعتزّ بأنّها فنّانة «غير لائقة سياسيّاً» Politiquement incorrecte.
وهنا يطرح السؤال نفسه عن التجاهل النقدي لزيادة في بيروت: هل هو مجرّد إهمال؟ أم قلّة اكتراث بأعمال لا تندرج في سياق الموضة السائدة وهاجس الرواج؟ أم خوف من المواد المتفجّرة التي تنطوي عليها تجربة جريئة، قد يشتمّ فيها بعضهم رائحة الفضيحة، في هذا المجتمع العتيد الذي تمرّدت الفنّانة على قيمه التقليديّة، برفق وعذوبة وعفويّة وخفّة ظلّ، من دون أن تعلن القطيعة؟


SMOKE ــــ حتى 5 كانون الأول (ديسمبر) الحالي ـــ غاليري L'Ébéniste، فضاء كتّانة ــــ كونيغ، مركز جيفينور، بيروت ــــ 738706/01
www.lamiaziade.com