درست آثار فلسطين من منطلق توراتي، فاختفى منها كل ما يتعلق بالحضارة العربيّة. الأديب والناقد محمد الأسعد، يتناول الاستشراق من زاوية لم يلتفت إليها الاختصاصيون
خالد سعيد
كثيرة هي الكتب التي تناولت الاستشراق، وواسعٌ هو التفاوت في مستوياتها. لكن حتى الآن، لا يُذكر الاستشراق من دون التوقّف عند كتاب إدوارد سعيد المرجعي في هذا الإطار. «الاستشراق: المفاهيم الغربية عن الشرق» (1978) شق الطريق إلى نقد الاستشراق نقداً علمياً لم تشهده الأوساط العلمية، ومهّد الدرب للباحثين ـــ وخصوصاً في العالم الثالث ــــ ليستكملوا المنظور النقدي لهذا «العلم» الغربي الخاص، واشتغاله على «تمثيل» الشرقي وبقية شعوب المستعمرات، تمثيلاً ملائماً للسيطرة على هذه الشعوب والسطو على ثرواتها.
الشاعر والروائي والناقد الفلسطيني محمد الأسعد، هو أحد الذين يسهمون منذ عقدين وأكثر، في حركة النقد هذه. لكنّ مساهمته تتخذ طابعاً فريداً. إذ التفت إلى ما يسميه «الاستشراق في علم الآثار»، أي كيف تناول المستشرقون آثار المنطقة العربية، وخصوصاً فلسطين.
تكمن فرادة البحث في أنّه يطرح، لأول مرة في اللغة العربية، جانباً من الاستشراق لم يلتفت إليه اختصاصيو الآثار، سواء كانوا فلسطينيين أو عرباً، أو حتى غربيين. والمتتبع للكتابات الغربية في العقدين الأخيرين يلاحظ تركيزاً على وجود نقد للخطاب التوراتي الذي هيمنَ على كتابة تاريخ فلسطين، وكشفٍ للتزوير الذي لجأ إليه هذا الخطاب بهدف خلق رابط بين الواقع الاستعماري الإسرائيلي وتاريخ فلسطين القديمة، وتبرير إبادة سكان فلسطين وسرقة أراضيهم.
محمد الأسعد، يجمع أطراف هذا الموضوع، بعدما شق الطريق إليه منذ 1991 في دراسات نُشرت في الصحف العربية، وأغناه بمصادر واسعة عربية وغربية، ثم ها هو يُصدره في كتاب «مستشرقون في علم الآثار» (الدار العربية للعلوم ناشرون). يضم الكتاب تمهيداً وستة فصول هي: كيف قرأوا الألواح وكتبوا التاريخ؟ المشكلة التوراتية، طريق العطور، والجغرافيا السياسية للثقافة العربية، ألسنة أم لهجات لسان واحد؟ وميلاد تاريخ فلسطين القديمة. هذه العناوين أو معظمها ذات طابع جديد لم نألفه في الكتابات العربية.

الكتاب فتحٌ في مجاله، وثمرة سنوات من الجهد والمتابعة

اللافت في الكتاب أنه يغوص في أطروحات المتخصصين ومشاكلها، ويقدمها إلى القارئ العربي بأسلوب بسيط وعين مدققة فاحصة. يأخذ المؤلف القارئ في رحلات متنوعة بين مذكرات شخصية وكتب بحثية ومقالات سجالية ليوصله إلى موضوعه الأساس: تفسير طبيعة عمل علماء الآثار في المنطقة العربية، وكيف حاولوا منذ قرنين تقريباً قراءة كل أثر مادي أو لوح مكتوب على ضوء روايات التوراة اليهودية. ومن هذا المنطلق، كتبوا تاريخاً للغات المنطقة وأحداثها وثقافتها من أبرز علائمه أنّه طمسَ كل ما يتعلق بالعرب وثقافتهم ولغتهم وحضاراتهم في الألوف الأربعة التي سبقت الميلاد. بل مضوا إلى التنكّر للوحدة الحضارية التي طبعت هذه البقعة من العالم، فاعتبروا لهجاتها «لغات» ومناطقها الحضارية وحدات قائمة بحد ذاتها، وأعطوا العربي صورة البدائي أو المتوحش الهائم على أطراف الحضارات.
وفي ما يخص فلسطين، يُبرز الكاتب أبعاد التلفيق الذي لجأ إليه المستشرقون التوراتيون، لإيجاد تطابق بين جغرافية خيالية يصنعها القصص التوراتي والجغرافية الفلسطينية، وكيف طمسوا تاريخ فلسطين القديمة، واقتلعوه وأحلّوا محله «تاريخاً» مستمداً من قصص شبيهة بقصص «ألف ليلة وليلة» لا يثبت علم الآثار واللغات والعمران واقعة واحدة من «وقائعه»...
هذا الكتاب فتحٌ جديد في مجاله. تدل الفترة الزمنية التي يغطيها، والأمكنة التي يذهب إليها، والمراجع الواسعة المتنوعة (لغوية وآثارية وتاريخية) التي يستند إليها، على أنه استغرق سنوات من الجهد والكد والمتابعة من صاحبه. إنه جهد يستحق التفات الباحثين والمختصين إما لمتابعة ثيماته أو إغنائها أو استكمال ما قصر عنه. الكتاب يفتح عروقاً ثمينة في منجم يحتاج إلى فرق عمل ومراكز أبحاث لا إلى عمل فرد واحد مهما أتقن عمله وأجاده.