يرتبط اسم متحف سرسق بذاكرة مدينة بيروت منذ الستينات. افتُتح للمرّة الأولى للجمهور عام 1961 بعد تسع سنوات على موت نقولا ابراهيم سرسق (1875 ــ 1952) الذي أوصى أن يحوّل قصره الواقع في حي السراسقة في الأشرفيّة إلى متحف للفن الحديث والمعاصر. يتحدّر نقولا سرسق من عائلةٍ اقطاعيّةٍ سكنت الأشرفيّة منذ القرن التاسع عشر وعملت في ادارة أراضيها الزراعيّة والصناعة.
كانت للعائلة علاقات واسعة مع الاحتلالات المتواصلة على لبنان في تلك الأيام وهي من العائلات النافذة وأحد وجهاء منطقة الأشرفيّة. أما نقولا سرسق، فكان الى جانب أعماله يحبّ الفن ويقتني القطع الفنيّة من لوحاتٍ وسجّادٍ وقطعٍ حرفيّة. عند موته، أعلن في وصيّته رغبته بتحويل قصره متحفاً للفن، فوهب القصر لوقف بلديّة بيروت وعلى رأسه رئيس بلديّتها، على أن يعرض المتحف لفنانّين لبنانيّين وغير لبنانيين ويكون تمويله مقتطعاً من ميزانيّة البلديّة من خلال تحويل جزء من الضرائب (10% من رسوم رخص البناء في بيروت) لتمويل المتحف. بين 1953 و1960، استُعمل القصر لاستضافة الشخصيّات السياسيّة والاجتماعيّة التي زارت لبنان، ثم عام 1961، يوم كان أمين بك بيهم رئيساً لبلديّة بيروت، تمّ تحويل القصر الى متحف وافتُتح للجمهور.
في سنواته الأولى، كان المتحف يعرض مجموعاتٍ متنوّعةٍ لفنّانين لبنانيين وغير لبنانيين وكان يشتري بعض الأعمال ويستقبل التقديمات من العائلات التي تقتني أعمالًا فنيّة. واظب المتحف على شراء الأعمال الفنيّة حتى عام 1975 حين اندلعت الحرب الأهليّة. استمرّ في العمل المتقطّع خلال الحرب ولكنّه توقّف عن حيازة أعمالٍ جديدة وأصبح يعتمد أساساً على التقديمات. بعد انتهاء الحرب، عاود المتحف نشاطه، فأطلق معرضاً سنوياً باسم «صالون الخريف». تأتي فكرة المعرض الغنيّة عن التعريف من باريس التي أوجدته عام 1903 داعيةً الفنانين المعاصرين لتقديم أعمالهم حيث تقوم لجنة من الخبراء بانتقاء الأعمال الفائزة وعرضها للجمهور. استمرّ معرض الخريف الخاص في سرسق لأكثر من 20 عاماً قدّم خلالها أعمال كبار الفنّانين اللبنانيين من مختلف الأجيال والمدارس أمثال خليل زغيب، وبول غيراغوسيان، وشفيق عبّود، وسلوى روضة شقير، وحسين ماضي، وفلافيا قدسي...
عام 2008، أقفل المتحف أبوابه وأطلق ورشةً ضخمةً لإعادة التأهيل والتجديد. في هذا الوقت، استمرّ بشكلٍ متقطّعٍ بتنظيم «صالون الخريف» خارج جدرانه مستعيناً بصالات أخرى. وُضعت ميزانيّة كبيرة للورشة التي استمرّت من تاريخ الإقفال حتّى اليوم تاريخ إعادة افتتاحه، فكلّفت مجمل الأعمال مبلغ 13 مليون دولار أميركي، وتولى المهندس المعماري اللبناني جاك أبو خالد ونظيره الفرنسي جان- ميشال فيلموت عملية التخطيط والتنفيذ.

واظب على شراء الأعمال
الفنيّة حتى عام 1975 عند اندلاع الحرب الأهليّة

عند انطلاق الورشة عام 2008، كثُر الكلام عن احتمال هدم هذا المبنى التراثي الذي يعود تشييده إلى عام 1912. ازدادت الشكوك في هذا الاتّجاه مع إزالة أدراج القصر التي كان زوّار المتحف يستعملونها للدخول الى المتحف ثمّ عند بداية الحفريات في باحة القصر. ولكنّ مشروع إعادة التأهيل والترميم توضّح مع الوقت. تمّ حفر باحة القصر كلّها بعد إزالة التماثيل منها ليُصار الى إنشاء أربعة طوابق تحت الأرض ملحقةً بالمتحف ولخلق مناور لها من مستوى الأرض. كذلك، تم تشييد مبنى زجاجيّ جديد يستعمل كبوتيك للمتحف وكافيتيريا. وفي داخل القصر، أضيفت مصاعد كهربائيّة تصل الطوابق السفليّة الأربعة بالطابق الأرضي والأول والثاني، مع إنشاء مكاتب جديدة للموظّفين. أما صالات المتحف القديم، فخضعت للترميم وأعيد تأهيلها ليعاد فتح الصالون الشرقي ومكتب نقولا سرسق مع أغراضه الشخصيّة وباقي الصالات أمام الجمهور.
وبالتالي أصبح المتحف اليوم يغطّي مساحة 8500 متر مربّع (كانت مساحته 1500 متر مربّع) ويضمّ صالات عدة ستقدّم المجموعة الدائمة في الطابق الأوّل وقسم من الطابق الثاني حيث الصالون الشرقي ومكتب نقولا سرسق وصالة لعرض صور وبطاقات بريديّة من مجموعة فؤاد دبّاس التي قدّمها لأرشيف المتحف بهدف حفظها وعرضها. وفي الطابق الأرضي، تحوي الصالتان التوأم أعمالاً معاصرة من أفلامٍ وتجهيزاتٍ. أما في الطوابق الأربعة تحت الأرض، فهناك صالة ضخمة للمعارض المؤقتّة ومكتبة تحتوي أرشيف المتحف وكتباً متنوّعة عن الفن الى جانب مجموعة كبيرة من الملصقات والصور وستوضع كلّها بتصرّف الباحثين في تاريخ مدينة بيروت الفنّي وتاريخ المتحف. وتضمّ هذه الطوابق أيضاً صالة عرض مجهّزة لاستقبال الندوات وورش العمل وعروض الموسيقى. كذلك تضمّ مخزناً كبيراً للحفاظ على الأعمال غير المعروضة وترميمها. وقد جُهزّت الصالات كلّها بتقنيّاتٍ عالية لحفظ الأعمال من الرطوبة والحرارة والإضاءة المباشرة. وفي الخارج، تم رصف الباحة وترميم زرعها من شتولٍ وأشجارٍ وقد أعيدت اليها بعض التماثيل القديمة، إضافة الى تماثيلٍ جديدة تشكّل مكاناً يستطيع الزوّار الجلوس فيه الى جانب كافيتيريا المتحف والبوتيك.
والى جانب الترميم وإعادة التأهيل، وُضع فريق عمل مختصّ لإدارة المتحف. تسلّمت زينة عريضة إدارة المتحف منذ حزيران (يونيو) 2014 وقد بدأت منذ ذلك الوقت بتكوين فريقٍ جديدٍ للعمل على إدارة مجموعة الأعمال وبرمجة أنشطة المتحف وإنشاء خطة التواصل مع الجمهور والإعلام. وقد كان المتحف الى حين إقفاله عام 2008، يُدار مباشرةً من خلال لجنة أشخاصٍ تترأسها شخصيّة عامّة وفيها من وجهاء عائلات المدينة. أمّا اليوم، فيترأس اللجنة وزير الثقافة السابق طارق متري وقد مُنحت الصلاحيّات الإدارية لزينة عريضة وفريقها واقتصر دور اللجنة على تمثيل المتحف ودعمه فقط.
سيفتتح المتحف بحلّته الجديدة اليوم من خلال مجموعة أنشطة وعروضٍ سبقتها ندوة مختصّة لمناقشة دور المتحف في المدينة ومفهوم العام/ والخاص طرحت فيها أسئلة محورية ومهمة: ما هو دور المتحف في بيروت التي تفقد بنيانها التراثي يوماً بعد يوم؟ ما هو دور البلديّات والوزارات في تمويل المتاحف لجعلها أماكن عامّة تقدّم منتجاً ثقافياً للجمهور؟ والى من يتوجّه المتحف الذي اختار فتح أبوابه للجمهور مجّانًا؟ هل سيكسر دائرة الفن الصغيرة والمغلقة في لبنان وإيصال الفن المعاصر خصوصاً إلى شريحةٍ أكبر من الجمهور؟ هل سيستطيع الخروج من تاريخ العائلة التي أسسته ليحاكي ذاكرة المدينة بشعبيّة أسواقها القديمة؟

إعادة افتتاح قصر سرسق: بدءاً من اليوم والافتتاح للجمهور بدءاً من الغد ـــ للاستعلام: 01/202001
ــsursock.museum