بالفحم على الورق، يرسم التشكيلي السوري المعروف عصافير ميّتة، سمكاً نافقاً بأعين مفتوحة، سكيناً بنصل لامع، فردة حذاء نسائيّ... أعماله مرثية للموت، ومرثية للحياة. جولة على معرضه الحالي في عمّان
أحمد الزعتري
في مرسمه في باريس، ترك يوسف عبدلكي عصفوراً ليموت جوعاً في قفصه كي يصبح بذلك «موديلاً» للوحة غلاف مجموعة قصصيّة للكاتب السوري جميل حتمل. هل هذه قسوة؟ قد نسامح عبدلكي إذا عرفنا أنه لم يستطع قتله «بضغطة صغيرة على الرقبة». ربما هذا هو الفارق بين أعمال التشكيلي السوري المعروف (القامشلي ـــــ 1951) التي تعرض حالياً في «دار الأندى» في عمّان، وبين الأعمال الفنيّة التي تشيّع الموت بكل قسوته. نذكر هنا لوحات الإسباني غويا الملحميّة في مرحلته المتأخرة، أو حتى جداريّة بيكاسو الشهيرة «غرنيكا». هنا قسوة من نوعٍ آخر: قسوة أن تعيش.
بالفحم على الورق، يرسم يوسف عبدلكي عصافير ميّتة، سمكاً نافقاً بأعين مفتوحة، سكيناً بنصل لامع، صبّاراً، أصدافاً بحريّة، فردة حذاء نسائيّ، أباريق وكؤوس شاي فارغة كأنها عناصر مقبرة... جماجم، بطيخاً وتفاحاً ورمّاناً في مواجهة السكّين. حين تنظر إلى تفاصيل اللوحات، أول ما يُدهشك هو البريق الأبيض الذي لم يكن ليظهر لولا خفوت اللون الأسود. المفارقة أنّ قسوته هي التي تجعل بريقه حادّاً، فكما أن السكين يَشحذ الخوف ببريق نصله، يقمع بريق جسد السمكة الميّتة الشعور بألفة الموت، ويحيله على نقيضه: الحياة. هنا بالضبط لا يمكن حصر هذا الثراء البصريّ كله في توصيف «الطبيعة الصامتة». ثمّة ما يتفلّت من هذا الجمود، كما يتساءل عبدلكي نفسه في إحدى المقابلات معه: «طبيعة صامتة ليست صامتة. طبيعة ميتة؟ أين الموت في كل هذه الخلايا النابضة؟ طبيعة ساكنة، ليست كذلك أيضاً. حتى جدران الإسمنت المسلح ليست ساكنة. طبيعة جامدة؟ ربما إذا قُصِد من ذلك ما يراد رسمه حيّاً، لكنه يجمِّد نفسه للحظة مثلما كان أجدادنا يجمدون عيونهم أمام آلة التصوير القديمة في الشوارع، ومن ثَمَّ يعاودون الحياة بعدها». هكذا تتحرّك لوحة «تحيّة إلى جواد سليم» (35 × 48) الفنان العراقي الراحل، متفلّتة من الغياب، فيرسم صورة مصغّرة للوحة معروفة للتشكيلي العراقي الرائد هي «طفلان يأكلان الرقّي» أمام نصف بطيخة ضخمة بقيت على حالها.
لوحة أخرى عبارة عن أشياء يوميّة متروكة في فراغ فادح: طقم أسنان معلّب، فرشاة، إبريق شاي وفنجانان مرسومان بخطوط باهتة، علبتا ألوان، مزهريّة... وضعت كل هذه الأشياء على فراغ هائل من دون أن يصل بينها شيء، حتى إن طقس شرب الشاي يبدو زائفاً، وأقرب إلى المرثيّة. رغم كل التأويلات، لا يمكننا إلا الربط بين سيرة عبدلكي وبين شخوصه الفنيّة المقصيّة والمحكومة بالقسوة. هذا الفنان حصل على إجازة من قسم الحفر في «كلية الفنون الجميلة» في دمشق (1976)، ودبلوم حفر من المدرسة الوطنيّة العليا للفنون الجميلة في باريس (1986)، ودكتوراه في الفنون التشكيليّة من جامعة باريس الثامنة (1989). وبدأ حياته مهتماً بفن الكاريكاتور السياسيّ ـــــ بتحريض من والده ـــــ والغرافيك والحفر. لكن انخراطه في صفوف الحزب الشيوعيّ، أدخله مبكراً إلى السجن. أمضى فيه عامين، ثم غادر إلى باريس للدراسة عام 1980، وبقي منفيّاً في مدينة الأنوار 25 عاماً.
هناك، وقبل وقت قصير من عودته إلى سوريا، رسم عمله الأيقونيّ المشهور: جداريّة «تحيّة إلى جيل السبعينات». لم تكن اللوحة إلّا «طبيعة صامتة» أيضاً: قبضة مقطوعة من الساعد، مستعيداً هزيمة ذلك الجيل الثائر: سعد الله ونّوس، علي الجندي، جميل حتمل، نوري الجرّاح وغيرهم. ربما لذلك تختفي الآدميّة من أعمال عبدلكي: إنها منفيّة، غريبة ومهزومة... إنّها تعيش.

حتى 25 كانون الأول (ديسمبر) الحالي ـــــ «دار الأندى»، عمان ـــــ للاستعلام:
96264629599 +


عن غربة قسرية

بدأ يوسف عبدلكي برسم ثيمات «الطبيعة الصامتة» قبل 14 عاماً في منتصف التسعينيّات. قبلها خاض مليّاً مجال الكاريكاتور السياسي، ثم طرق باب النحت. ذهب إلى باريس للدراسة، لكن الفترة كانت «تمطّ وتمطّ» على حد تعبيره. غربة عبدلكي تشبه لوحاته: رغم غناها التعبيري، ثمة ما ينتظر، أو ثمة ما انتظر وملّ. هكذا يرى عبدلكي المسافة بين القامشلي وباريس: بلد لم يعد يشبهه، وغربة قسرية لا يسعى إلى التأقلم معها كما يقول. رغم ذلك، لا يغتال عبدلكي انتماءه الثوريّ، سواءٌ أكان على هيئة قبضة مبتورة، أم حتى الموت الذي يلمع في أعين العصافير الميّتة.