كرّم «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» أخيراً الناقد والكاتب اللبناني الرائد. في ما يلي التحيّة التي وجّهها رئيس تحرير «الآداب» إلى صاحب «جذور السنديانة الحمراء»
سماح إدريس
لا أستطيع تخيّلَ محمد دكروب إلا سائراً في شوارع بيروت. يحمل جريدته ويقرأ، وقد زمّ عينيْه من خلف نظارتيْه السميكتين. السيّاراتُ تمرّ من أمامِه وخلفِه، وعلى الجانبين. أتخيّل السائقين يشتُمون. لكنّ دكروباً لا يأبه بما يحْدث؛ فهو يعرف طُرقَ بيروتَ جيداً، وهي ائتلفتْ معه وتماهت، حتى لم نعدْ نعرفُ مَن وُجد قبل الآخر.

***


عدد من المميِّزاتِ تسِمُ مؤلَّفاتِ دكروب النقديّة. أهمُّها استرجاعُه للمُناخ الذي أحاط بالأثر الأدبيّ. وهو بذلك يؤنسن الأدبَ والفنَّ، بإبعادهما عن نظريّاتٍ تأسِرُهما في نصّيّتهما. الأدب، والفنُّ عامة، مكوَّنٌ من عناصرَ متعددةٍ وموادَّ أولية، كما يقول عبد الرحمن منيف. لكنّ دكروباً لا يسترجع هذه العناصرَ والموادَّ بطريقة الباحث العابس، بل بطريقة الروائيّ والسينمائيّ: يَستخدم المونتاج، والفلاش باك، والشهادات، والصحف مع النقد وتاريخِ الأدب. هذا كان دأبَه على امتداد أربعة كتب، سيضيف إليها كتاباً خامساً قريباً، لتصبح الحصيلةُ خمسةَ كتبٍ ينطبق عليها ما سمّته يمنى العيد جنسَ «السرديّات النقديّة». والطريف أنّ منيفاً لا يشبّه عملَ دكروب بعمل السينمائيّ أو الروائيّ، بل بعمل دكروب الأصليّ، أي السنكري: دكروب، وفق منيف «يلحِّم الأجزاءَ بعضَها ببعض، ويعرّضُها للنار والنور، لكي تأخذَ شكلَها وقوامَها الأخير». ما قد يدعونا إلى إضافة «السنكرة» إلى العُدّة النقديّة التي غَفَلَ عنها نقادُ الأدب. وأنا هنا لا أمزح: نقاد كثيرون يجْزمون بأنّ جمال الغيطاني أفاد في رائعته «الزيني بركات» من عمله السابق في نسج السجّاد، من حيث حوكُه المرويّاتِ بدأَبٍ وترابطٍ، فلماذا تستكثرون علينا أن ندّعي أنّ الدكروب أفاد من السنكرة في نقده الأدبيّ؟

***


يخالف النقدُ الدكروبيّ النقدَ الذي شاع عند نقّاد الأزمنة الغابرة المتزمّتين الذين كانوا، بعبارة رئيف خوري، «يوصوصون من نويْفذةِ حزبٍ أو حكومة». وأنا أعزو انفتاحَ الدكروب إلى معرفته بالكتّاب أنفسهم، وصِلتِه الوثيقةِ بمجريات زمانهم. من ذلك قولُه في مقالٍ عن مارون عبّود: «كان النقدُ الذي كنا نمارسه، نحن التقدميين في تلك الفترة، ضيّقَ الصدر، وعلى شيءٍ لا بأسَ به من التزمّت». وهو في هذا الصدد يحكي أنه سأل مارون عبّود لماذا جعل السركيس شدياق، بطلَ رواية «الأمير الأحمر»، يستسلم في الصفحة الأخيرة للمير بشير، فيجيبه عبّود: «يا حبيبي، شو بدّك الشدياق يكون متلكم؟ هيك صار بالواقع. لكنْ مش هيدا المهمّ. المهمّ إذا خلّيت هذا الثائر الفردي ينتصر بيكون ضدّ شخصيته الروائية. ضدّ الفن. فهمت؟». ويستنتج دكروب: «بعد سنوات صرتُ أرى أنّ الثورية تقوم في مسار الرواية كلّها وليس في خاتمتها».
هذا الحوار المباشر بين دكروب وعبّود أسهم، باعتراف دكروب، في أن ينتشلَ هذا الأخيرَ من النقد الحزبيّ الصارم، ومن الصيغة الفجّة للواقعية الاشتراكية. ولا بدّ هنا من أن أشير إلى أنّ معرفة دكروب الوثيقة بكتّابٍ من مختلف الاتجاهات، وحوارَه معهم، قد أفادا الحركةَ الشيوعيّة اللبنانيّة بما قد لا تستطيع أن تكافأه به. إنه، وحسين مروّة، كانا سفيري الشيوعيّة اللبنانيّة إلى شتّى أطياف المثقفين في لبنان والوطن العربيّ. وأذْكر أنّ سهيل إدريس، حين كان يستبدّ به الغضبُ من تصرّفات الشيوعيين داخل اتحاد الكتاب اللبنانيين، يستدرك سريعاً: «شوف يا سماح! الشيوعيين بميل، ومروّة ودكروب بميل تاني». وأنا في استعادتي لقول سهيل لا أحاول أن أُوقِع بين الحزب الشيوعيّ وأحد أبرز أبنائه البررة، بل لأبيّن أنّ دكروباً وقلةً آخرين قدّموا صورة ناصعة لما ينبغي أن تكونَ عليه العلاقةُ بين الماركسيين والقوميين العرب.

***



على أنّ السمة الأبرز في إنجاز دكروب هي إخلاصُه لعمله. ولا يتبدّى ذلك على أفضل وجهٍ إلا في تحريره لمجلتي «الثقافة الوطنية» و«الطريق». وأزعُم أنني قد أكون الأقدرَ على الحديث عن هذه الناحية بحْكم كوني رئيساً لتحرير مجلة ثقافيّة منذ عَقدين. كنّا أنا ودكروب نتحادث مراراً في الشهر، وكلّما سألته «كيفك مولانا؟» يجيبني: «آخ، محروووووووووق ديني». نعم، كان دائماً محروقَ الدين من عمله في «الطريق»، لكنه كان يستمتع بذلك الاحتراق حدّ الانتشاء. ولعلّه لم يُمضِِ وقتاً من عمره يوازي الوقتَ الذي أمضاه في التحرير والتصحيح، وملاحقةِ الكتّاب، وتدبيجِ الافتتاحيّات وتدبير صور الغلاف. بل أشهدُ أنه عمِلَ ساعيَ بريدٍ لـ«الطريق» أحياناً: يوزّعها على الأصدقاء كأنّها حباتُ بونبون. لقد كانت «الطريق» هديّته إلى العالم. وبغيابها، انطفأ شيءٌ في صديقي محمد دكروب، وشعرتُ بأنّ هذا الانطفاء قد يُشعل كل أرجاء كيانه. وحين عاد إليّ ذات يومٍ بخبر نيّة حزبه في إعادة إصدار «الطريق» بحلّةٍ جديدة، فوجئ بوجومي. قلت له إنّ التجديد قد يكون كلامَ حقٍّ يراد به باطل، وإنني أخشى أن يكون التجديدُ تمهيداً «للتسكير» (الإغلاق). نعم، كنتُ أفضّل أن تبقى «الطريق» حيّةً رغم كلّ نقائصها. وكنتُ أخاف أن تطيحَ العقلانيّة، والرغبة

هو وحسين مروّة كانا سفيرَي الشيوعيّة اللبنانيّة إلى أطياف المثقفين العرب

في التجديد، المجلة. «الطريق»، رغم كلّ شيء، كانت أيها الأصدقاء منبراً عزّ نظيرُه في لبنان، ودكروب كان رئيسَ تحريرٍ لامعاً. وبغيابها، فقدتِ الشيوعيّةُ اللبنانيّةُ واحداً من أهمّ مداميكها الصُّلبة في المجتمع اللبنانيّ (والعربيّ). ولا أبالغ إذا قلت إنّها لا تقلّ عظمةً عن «جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة» التي كان للحزبِ الشيوعيّ شرفُ تأسيسها إلى جانب تنظيمين شيوعيين آخرين. وبغياب المقاومة العسكريّة و«الطريق»، خسر الحزبُ الشيوعيّ ثقلَه في مجتمعنا. أما على المستوى الشخصيّ، فأفتقد «الطريق» كثيراً: كانت زميلةَ «الآداب» الدائمة في معركة الحريّات والتقدم. ومثلما دعوتُ قبل أعوام، في ندوةٍ إحياءً لذكرى مهدي عامل، أدعو اليوم الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ إلى إعادة إصدار «الطريق»، بنفَس دكروب الاشتراكيِّ بلا تزمّت، والمنفتحِ بلا ميوعة. ونحن في مجلة «الآداب» على كامل الاستعداد للتكفّل بجزءٍ من كلفة إصدارها، مع أننا لا نكاد نقوم بعبء إصدار «الآداب»؛ فالرغيف الذي يُطْعم شخصاً قادرٌ بالتأكيد على أن يُطعمَ اثنين.
إنّ تعبَ دكروب، وتراثَ الاشتراكيين العرب، ينبغي ألا يذهبا هدراً. ومع كامل احترامي لمجلة «النداء» و«صوت الشعب»، فإنّ ألق الشيوعيين اللبنانيين قد خبا كثيراً مع انطفاء «الطريق».

***


تبقى في النهاية بسمةُ دكروب. إنها ابتسامة وصفها يوسف إدريس بـ«ابتسامةٍ دائمةِ الخلود، تنفُض الهمومَ، وتملأ بالثقة، وتقرّبكَ إلى النفْس». هذه البسمة لم تغبْ عن شفتيْ دكروب حتى حين زرتُه سراً ذاتَ يومٍ كئيبٍ في منزلٍ سرّي في منطقة الروشة، بتوصيةٍ من قيادة الحزب على الأرجح. كان دمُ مهدي عامل ما زال على الطريق، وأنفاسُ حسين مروة تتحشرج في الآذان. وكان دكروب يبتسم رغم الألم والمأساة. بسمةُ مولانا محمد دكروب ستبقى خالدةً حقّاً، لأنها تخصّ أحدَ الوجوه التي... لن تموتَ في الثقافة العربيّة الحديثة.


الخالدي مكرماً

بعد الإعلامي طلال سلمان، والممثل أنطوان كرباج، والناقد محمد دكروب، يكرّم «النادي الثقافي العربي» مساء غد المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي (الصورة) ضمن برنامج «معرض الكتاب» في «بيال». كرّس صاحب «الصهيونيّة في مئة عام» حياته لتاريخ القضيّة الفلسطينيّة قبل الشتات وبعده، ودراسة تاريخ الصهيونيّة وقيام دولة إسرائيل. وقد أسس الخالدي «مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة» التي أسهمت عبر عقود في حفظ الذاكرة الفلسطينية.