strong>علاء حليحلكانت المفاجأة كبيرة، حتى ليصعب عليك، لدى خروجك من المسرح، تكوين رأي عمَّا شاهدته. تستقرّ حيرتك على جملة واحدة مجلجلة في الرأس: «يحرق حريشك يا فرنسوا»! قدَّم فرنسوا أبو سالم، المسرحيّ الفلسطيني المخضرم، مسرحية «أبو أوبو في سوق اللحامين»، أخيراً. العرض من إنتاج «الصندوق العربي للثقافة والفنون» في عمان، وحصد الجائزة الأولى في «مهرجان المسرح الآخر» في عكا. يقف أبو سالم على الخشبة إلى جانب الممثل الشاب أدهم نعمان. يلعبان لعبة مسلية: أب وابنه يخططان للاستيلاء على مخترة الحمولة. يدير الاثنان ملحمةً، وحياتهما ملأى باللحوم النيئة ورؤوس الخراف المقطوعة. بعد مرور حوالى 20 دقيقة، تبدأ مسرحية أخرى، لعبة أخرى تتضح معالمها مع الوقت. إنها لعبة الجنون اللانهائي، والخروج عن المألوف، والإمعان في الغرابة والتغريب. إنّه مسرح القسوة في أقصّى تجلياته.
يتحوّل اللحم النيء ورؤوس الخراف إلى أداة العمل الأساسية في المسرحية: يقطعانها، يطحنانها، يأكلان الكبد النيء على الخشبة، يلعبان باللحم، يجعلانها شخصيات المسرحية الأخرى. يفعلان كل هذا «بوقاحة»، وبعفويّة مَن يرى في حياته وحياة من حوله كتلة من اللحم تنتظر من يقطعها ويأكلها. حتى إنّ الابن يقدم في

كأننا بـ«الحكواتي» يقول: «سأريكم أيها الأوغاد!»

النهاية على تقطيع أبيه بالمنشار، فيتطاير دمه ويلقي الابن رجل الوالد المقطوعة في حضن الجمهور. تصل اللعبة حدّ القرف أحياناً. هي مغامرة مليئة بالدهاء، بحاجة إلى مسرحيّ من طينة أبو سالم ليقوم بها... بعد أربعين عاماً من العمل المسرحي، يطلّ «الحكواتي» علينا من شيخوخته الشابة، ويقول ساخراً: «الآن، سأريكم أيها الأوغاد».
يطرح أبو سالم قصّة تدور أحداثها في القدس، وتتمحور حول تيمة السلطة والخلاف عليها، حول الفلسطيني الراضخ تحت الاحتلال، الذي تحول بعد كل هذه السنين إلى إنسان نهم يسعى إلى تملك القوة وممارستها على أبناء شعبه. إنها أمثولة قاسية وعنيفة وفظة حتى أبعد الحدود. لكنَّها في الوقت نفسه ترتكز على كوميديا المفارقة، على السخرية الذاتية التي تراوح طيلة الوقت بين السّخافة والتسخيف المقصود. أليست هذه الحياة التي نحياها اليوم؟
أثبت فرانسوا أبو سالم من خلال «أبو أوبو في سوق اللحامين» أنّ في جعبته المزيد.
لن يحبّ الجميع الفظاظة والهمجية والسوقيّة التي يتعامل بها الممثلان مع اللحم النيء، وحضوره الطاغي على الخشبة.
لكن هذا لا يهمّ. ما يهم أنّ المسرحية تعيد الرونق المفقود إلى المسرح الفلسطيني.
تعيد هذا الأخير إلى مهمته الأساسيّة: أن يصفعنا وأن يجعلنا نعيد النظر في مسلّماتنا (الفنية، التذوقية، الحياتية).