صاحبة الصّوت الرقيق غداً في «ميوزكهول»

تجمع الفنانة الماليّة الشابّة، في تجربتها، بين مشاغل حداثيّة وأمانة للتراث الذي تنحدر منه. تستعير من البوب والروك، لكنّها تجد جذورها في البلوز الأفريقي، على خطى مواطنها الراحل علي فاركا توري. نجاحها العالمي يعيدنا إلى أسئلة مشروعة عن علاقة الموسيقى الإثنيّة بالأذن الغربيّة، وعن فخ مهادنة الذوق ما بعد الكولونيالي

بشير صفير
بعد عازف البيانو الكوبي روبيرتو فونسيكا من كوبا، ثم عازف الإيقاعات والمغني الأنغولي بونغا، يبقى «ليبان وورلد» في القارة السوداء، إذ يستضيف غداً الأحد في بيروت الفنانة الماليّة الشابة رُقيّة تراوري التي تغنّي للمرّة الأولى في لبنان. المهرجان المتواصل الذي انطلق قبل سنة ونصف في بيروت، مبادرة أطلقها «ليبان جاز» (كريم غطّاس) ـــــ بالتعاون مع «إلفتريادس» ـــــ موسّعاً دائرة اهتماماته، لتشمل فنانين عالميين تتصل تجربتهم بأصولهم الإثنيّة وتراثهم الموسيقي.
غداً، سيكون الموعد غربياً ـــــ أفريقياً إذاً في «ميوزكهول»، مع رُقيّة تراوري (1974)، هذه الفنانة الماليّة التي لا تخلو تجربتها من الحداثة (نسبة إلى الموسيقى الشعبية الأفريقية). فاز آخر إصداراتها Tchamantché الصادر عام 2008، بجائزة أفضل ألبوم لسنة 2009 عن فئة موسيقى الشعوب (موسيقى العالم) في المسابقة الفرنسية الشهيرة Les Victoires de la Musique. فهل جاءت الجائزة التي ساعدت في انتشار اسم رُقيّة، تعبيراً عن هاجس الاعتراف بالآخر وتكريساً لثقافة الاختلاف؟ أم هي مكافأة ودعوة مبطّنة إلى دخول العصر ما بعد الكولونيالي من باب الموسيقى؟ قد تستدعي هذه الأسئلة العودة قليلاً إلى علاقة العولمة بالإثنيّات الموسيقية، وإلى آلية تعاطي السوق العالميّة مع الفنّ «الغريب».
موسيقى العالم، في لغة التسويق، لم تعُد تعني موسيقى فولكلورية أو موسيقى الشعوب أو موسيقى تراثية. بل موسيقى شعبية عالمية. وعالميّة بمعنى قابلة لـ«البيع». فالتخت الشرقي الخام



مقطع من "zen"








مثلاً، لا يلفت مانحي الجوائز في فرنسا أو المواطن الياباني، بقدر ما تلفتهم تركيبة شرق/ غربية، تشترط على العود قبول زمالة الغيتار أو الساكسوفون أو الإلكترونيات. كذلك الأمر في حالة الطبلة والدرامز. وينطبق المثال نفسه على أيّ حالة جمع بين معرفة إنسانية من العالم الثالث من جهة ومعرفة غربية (ذات عناصر مُعَوْلَمة) من جهة ثانية، وتحديداً لناحية الموسيقى.



مقطع من "kounandi"











الناجح في السوق، هو مَن لا يُبقي مِن مكونات تراثه ما قد يخدش الأذن الغربية أو «العالمية». حين لا يحتوي العمل على أي عنصر نافر (موسيقياً ولغوياً وسياسياً)، فلا مانع من القبول به كما هو. المهم أن يكون قابلاً للتسويق.
في حالة رُقيّة، نجد فنانةً أمينة إلى حدٍ كبير على تراث بلادها، لكنّها سلكت منذ البداية طريق الحداثة النسبية. اتخذت من الغيتار آلتها الأساسية، ولم تهمِّش الآلات التراثية الغرب ـــــ أفريقية كالـ«نغوني» (آلة وترية قريبة من العود) وبعض الآلات القرعية الأفريقية... تحت إشراف الدرامز. تكتب تراوري نصوص أغانيها بلغتها الأم، لكنها تفرد حصّة لنصوص فرنسية (اللغة الرسمية في مالي)، ولمزيج من الاثنتين. تنتقل من وصفٍ للحياة والغد المجهول، إلى إضاءةٍ على شقّ تاريخي غابر من قارتها. تغنّي الحب والفراق. تضع الإصبع على الجرح في مسألة الهجرة الأفريقية غير الشرعية إلى أوروبا.

أغاني الحبّ والفراق... والهجرة غير الشرعية إلى أوروبا
لا فرق يُذكر في الأداء والنغمات بين أغنية حزينة، أو هادئة، وأخرى احتفالية. بين أغنية عاطفية، وأخرى «سياسية». صوت تراوري الرقيق والفائق النقاوة يعبّر عن المعنى، من دون حاجة إلى التوضيح وإثارة الشفقة أو الغضب. أغانيها الخاصة، تؤديها بصوتها العسلي (وهي صفة نستعيرها من استخداماتها المتكررة لـ«العسل» ودلالاته في نصوصها)، وتعتمد لناحية النغم على الجملة الموسيقية القصيرة والمتكرِّرة، ساعيةً إلى تطويرها أو تلوينها. لرُقيّة أربعة ألبومات، أولها يعود إلى 1998 وآخرها «تشامنتشيه» الذي تختمه بمفاجأة سارة، هي المحطة المخفيّة hidden track حيث تؤدي The Man I Love (بيلي هوليداي).
لكنّ السؤال الأهم، يبقى في أي خانة نضع الألحان والإعداد الموسيقي في أغنياتها؟ قيل إن عندها شيئاً من الروك والبلوز والبوب والأفريقي. روك وبوب؟ كلام مبالغ فيه، لولا بعض الاستعارات الطفيفة أو الجزئية. بلوز؟ هذا طبيعي إذا بحثنا في الجذور الأفريقية لموسيقى البلوز. وفي المحصلة الأخيرة، هي أقرب إلى البلوز الأفريقي من أيّ نمط آخر، بدليل أنّها تهدي ألبومها الأخير إلى عملاق هذا التيار، مواطنها الراحل علي فاركا توري. ويضاف إلى هذه المكوِّنات، تأثرات كلاسيكية معاصرة. ونذكر هنا أيضاً تعاونها مع «رباعي كرونوس» الشهير في الألبوم ما قبل الأخير، وقليلاً من الموسيقى الشرقية الحاضرة في نبرة الـ«نغوني»، وفي ربع صوتٍ عابر (أغنية Kounandi)، يمثل ربما التاريخ القديم لمالي، تلك المملكة الإسلامية التي عاشت قروناً قبل مجيء الاستعمار الفرنسي.
تشيع وسائل الإعلام الغربية أن Zen هي أفضل أغنية لرُقيّة. هذا تضليل. الأغنية مليئة بالصور والمواقف الخفيفة، ولا شيء فيها أبرز من بقيّة الأغاني موسيقياً. لكنّ نصّها فرنسي، وهي ـــــ موسيقياً ـــــ الأبعد عن القارة السوداء، والأقرب إلى البوب الغربي. مفارقة تعيدنا إلى جوهر المسألة في ما يخصُّ موسيقى شعوب العالم الثالث.


9:00 مساء غد الأحد ــــ «ميوزكهول» ــــ للاستعلام: 03/807555
www.rokiatraore.net