الانفصال عن اللغة الأم، التعلّق بجين أوستن، النفور من داروين، هذا بعض ما نكتشفه في رسائل غير منشورة لرائد مسرح العبث، صدر جزؤها الأوّل عن «جامعة كامبريدج» في الذكرى العشرين لرحيله

أحمد الزعتري
«ما من شيء هزلي ومضحك أكثر من التراجيديا». يخدعنا صموئيل بيكيت جميعاً ويضحك علينا، يوهمنا بأننا لسنا إلا كائنات معذّبة بلا أمل، ثم ينجو بنفسه. ينجو بيكيت (1906ــــ1989) هذا العام مرّتين: تصدر نسخة عربيّة جديدة لمسرحيته الأشهر «في انتظار غودو» من ترجمة وتقديم بول شاوول (دار الجمل). ويصدر الجزء الأول من «رسائل صموئيل بيكيت 1929 ـــــ 1940» (جامعة كامبريدج).
في البداية، لا نستطيع القول إنّ النسخة الجديدة من «في انتظار غودو» ستسدّ فجوة معرفية لدى القارئ العربيّ، إلا أن ترجمة مسرحيّ وشاعر عربيّ لها ستكون الميزة التي يبحث عنها القارئ. علماً بأنّه اطّلع عليها سابقاً بترجمات فايز إسكندر وجبرا إبراهيم جبرا.
يقدّم شاوول للنسخة الجديدة بانوراميّاً؛ ماسحاً المناخات الثقافية التي تأثر بها بيكيت قبل كتابة المسرحيّة (1948) وخلالها: «نجد أن بيكيت، عاصر صديقه الروائي الإيرلندي الكبير جيمس جويس وتجاربه اللغوية في مجال الكتابة الروائية، واطلع جيداً على كافكا وأجوائه الداخلية وسارتر و«غثيانه» وكامو و«غريبه» وكاليغولا (..)». كما يقدّم شاوول رؤيته الخاصة للمسرحيّة، محلّلاً شخصيات العمل وعوامل الزمن والذاكرة والعبث.
أودى هذا العمل بالمدارس المثاليّة والتنظيريّة. بعد انهيار القيم إثر الحرب العالميّة الثانية، لم يكن لائقاً الانشغال بأعمال أدبيّة خارجة عن الزمن. يومها، كان الواقع أقذر من أن يُعبَّر عنه بواقعية سارتر وكامو اللذين انشغلا بالصراعات الأخلاقيّة بنزعة وجوديّة. هكذا لفت بيكيت الانتباه إلى مسرح العبث وصانعيه مثل أوجين يونيسكو وجان جينيه. مع ذلك، يروي ممثل شخصيّة «إستراغون» بيتر وودثورب (ممثّل النسخة البريطانية الأولى من المسرحية عام 1955) أنه سأل بيكيت عن معنى المسرحية فأجابه «إنه عن التكافل يا بيتر، التكافل».
هذا الحوار المقتضب الذي جرى في تاكسي لا يكشف شيئاً عن شخصيّة بيكيت. وكنّا نأمل أن نكتشف شخصيّته في الجزء الأول من رسائله التي أصدرتها «جامعة كامبريدج» أخيراً من أصل أربعة أجزاء ستصدر تباعاً. لكنّنا سنصاب بخيبة أمل حين نعرف أن بيكيت أجاز للمحرريْن مارثا دوو فسينفيلد ولويز مور أوفربيك نشر الرسائل، شرط أن يُنشَر ما هو متعلّق بأعماله فقط...يضم المجلّد رسائل المعلّم الأكبر بين 1929 ــــ 1940، وهي المرحلة الخصبة التي نشر فيها أولى مقالاته الأدبيّة عن معلّمه جيمس جويس (1929)، ودراسته المشهورة عن مارسيل بروست (1931) وروايته الأولى Murphy (1938). ذلك قبل أن ترفض دور النشر نشر روايته Dream of Fair to Middling Women التي لن تنشر قبل 1993. مع

إيقاع متوتّر ونبرة كئيبة ومنهكة
ذلك، كان بيكيت كاتباً شاباً تائهاً: أقام بين لندن، ألمانيا، ودبلن، استقال من وظيفته كمحاضر في «جامعة ترينيتي» في دبلن، وأخذ يبحث عن وظائف في جنوب أفريقيا وميلان ومانشستر. استقرّ أخيراً في باريس. هناك طعنه قوّاد في أحد الشوارع الخلفية... وعندما سأله بيكيت لاحقاً عن سبب فعلته تلك، أجاب «لا أعلم، يا سيدي، أنا آسف». تلك العبارة سيستعملها بيكيت في مسرحيته «في انتظار غودو».
في غضون ذلك، كان بيكيت يتراسل مع صديقه توماس ماكغريفي الذي كان يحاول نشر كتبه في باريس. أخبره بيكيت عن انفصاله عن لغته الإنكليزيّة «كل مرة أمسك فيها قلمي لأكتب شيئاً بالإنكليزيّة، أشعر بأنني أنفر منها»... وعن تعلّقه بجين أوستن «هذه الأيام، أقرأ جين السماويّة، أعتقد أنها تملك الكثير لتعلمني إياه»، ومعلّقاً على كتاب داروين «أصل الأنواع» «أعتقد أنني لم أقرأ بحثاً (...) بهذا السوء».
قد يخدعنا الإيقاع المتوتّر في رسائله والنبرة الكئيبة والمنهكة في أعماله، والهالة التراجيديّة التي أوقع فيها شخصياته. لكن صديقته الروائيّة الإيرلنديّة إدنا أوبراين تخبرنا أنّ بيكيت «لم يكن ناسكاً، بل كان حاراً، ودوداً، شريفاً، كريماً، ذا جاذبية مغناطيسيّة عميقة ومنضبطة». لذا نعرف أنّ كل الهالة التي أحيطت به هي بسب مقته للشهرة، واقتراب أدبه، أكثر مما كان معتاداً، من الهاوية.