ابن مدينة النجف الزاخرة بالخطوط والنقوش، يقدّم دراسة مقارنة بين كلاسيكيات الخط العربي والابتكار الفنّي كما يتجلّى في أعماله
حسين السكاف
«لا يمكنُ الخط الحديث أن يشابهَ خط ابن البوّاب ولا خط راقم. الزمن يفرض التحولات. صحيح أن الخط يتميز بنوع من اللازمنية، فرضتها قواعد ورثناها عن أجيال الخطاطين المتعاقبة. لكن الخطاط الذي يعيش عصر غزو الفضاء، لا يعقل أن يخط كمن عاش عصر الحصان. يجب أن يكون الخط الحديث استمرارية للخطوط الماضية، وذلك بالحفاظ على بعض العناصر شرط إعطائها المظهر المعاصر، وتحوّر عناصر أخرى بينما ينحسر كل ما لا يتفق مع ديناميكية الزمن الحديث ونغمه».
الفكرة هذه بعمقها وجدليتها وحتى بساطتها، هي بالضبط ما يميز أفكار الخطاط العراقي حسن المسعود (1944) التي تمتد تجربته لأكثر من أربعين عاماً. وهي الفكرة ذاتها التي يطرحها المسعود أمام القارئ من خلال كتابه «الرغبة في الطيران» الصادر أخيراً باللغتين العربية والفرنسية عن دار Albin Michel. صحيح أن الكتاب يختص بفن الخط العربي قديماً وحديثاً، إلا أن عنوانه الذي لا يخلو من مشاكسة شعرية، مأخوذ من مقولة للكاتب الفرنسي هنري ميشو (1899 ــــ 1984) «كل راقص إنما هو رغبة بالطيران». وهنا نعرف بالضبط سحر المقولة ووقعها في روح حسن المسعود المطّلع بشغف على عوالم الفلسفة الصوفية وطقوسها.
يقدّم الكتاب دراسة مقارنة بين كلاسيكيات الخط العربي والحداثة والابتكار الذي عرفناه من خلال أعمال حسن المسعود وطريقته الخاصة في التنفيذ. لذا، عمد المسعود بطريقة إخراجية فنية متقنة إلى تقسيم الكتاب عبر تباين لون الأوراق ليفصل بين القديم والحديث وتكون النصوص أداة الربط بينهما. اللون البنّي الذي يعبر عن شكل الأوراق العتيقة لكن بأناقة واضحة، اختص بالطرق والأساليب القديمة المعروفة في الخط العربي.

يستخدم الكتل اللونية لتجسيد روح العبارة

أما الصفحات البيضاء فقد اختصت بابتكارات هذا الفنان وطرقه الحديثة التي تقترب من التشكيل برمزية مبسطة لا تخلو من جمالية في التكوين وأهمية في الأفكار. أفكار حرص المسعود على كتابتها بخط رشيق مقروء. هذا الفنان المولود في مدينة النجف التاريخية الزاخرة بالخطوط والنقوش الفنية، عمل لسنوات مع العديد من الخطاطين العراقيين على رأسهم هاشم البغدادي، قبل أن يتجه عام 1969 إلى باريس ويدخل «معهد الفنون الجميلة» ويحصل بعد خمس سنوات على دبلوم في الفنون الجميلة. إلا أنه لم يتخلَّ عن حروفه وخطوطه. بل سخّر دراسته الفنية والأكاديمية لخدمة الخط العربي، وراح يدرس طرق الخط وأساليبه لدى مختلف شعوب العالم، فظهرت في خطوطه تقنية الفرشاة العريضة وسرعة الحركة ورشاقتها كما في الكتابة الصينية، ورشاقة الخطوط ودقتها وانحناءاتها كما في الكتابة الهندية.
وإضافة إلى قيمته الفنية وأهميته التعليمية لفنّ الخط العربي قديماً وحديثاً، يزخر الكتاب بالعديد من المقولات والحِكَم التي أضاف الفنان قيمةً فنية وجمالية إلى قيمتها وأثرها الأدبي أو الفلسفي. هكذا يشتغل حسن المسعود على الخط. عندما تأسره مقولة، نجده يستخدم كتله اللونية بتلقائية العارف المتخصص، ليقدم لنا روح العبارة. حين توقف عند مقولة أبو العرب الصقلي، «إذا كان أصلي من تراب فكلها بلادي وكل العالمين أقاربي»، وقرر أن يمنحها جمالية الخط العربي الحديث، عمد إلى رسم كلمة «فكرة» بطريقة فنية احتلت أغلب مساحة الورقة، ليشير إلى أن هناك فكرة تستحق الوقوف والتأمل. فإذا بالقارئ يجد مقولة الصقلي مكتوبةً بخط فني رشيق أسفل التكوين.
بعد اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، نشر حسن المسعود كتابه «خطوط الحب» الذي احتوى على أكثر من 70 لوحة ضمّت نصوصاً ومقولات لمفكّرين وشعراء وكتّاب مسلمين. وهو من خلال كتابه «الرغبة في الطيران»، يقدّم لنا العديد من الأفكار والرؤى والأمثال الشعبية التي انتقاها بدقة وعناية من مختلف ثقافات العالم. هكذا، يدلنا على قيم جمالية تتقاسم الفكرة بين الشكل والمضمون كما تتقاسم الدلالة والاختزال.