في «ملوك الرمال» (دار كليم ـــــ أبو ظبي)، يروي صاحب «بابا سارتر» صراعاً بين فصيل عسكري وعصابة بدويّة عشية غزو الكويت. أبعد من الحدّوتة، يأخذنا الروائي العراقي إلى سياقات اجتماعية وسياسية شاسعة
حسين بن حمزة
نقرأ رواية «ملوك الرمال» (دار كليم ـــــ أبو ظبي) لعلي بدر، وهي التاسعة له، فتعود إلى أذهاننا عوالم رواياته السابقة. فكرة العوالم هي المادة الجوهرية لممارسات هذا الروائي العراقي الذي لطالما برع في ابتكار نصوص شديدة الثراء والتنوع، وذهب إلى مناطق حكائية وواقعية تبدو وعرة وغير مروّضة. صحيح أن ملاحظات عديدة صاحبت قراءتنا لبعض رواياته، إلا أن ذلك لا ينفي جِدَّتها وتجريبيّتها.
العالم الروائي هنا لا يعني امتلاك مهارة لوضع خطة سردية محكمة فقط، بل يعني الانطلاق من موضوع أولي، واقعي أو متخيل، يمتلك ثراءً وخصوبة داخلية حتى قبل أن يُكتب ويتطور داخل الرواية نفسها... يلي ذلك قدرة مرنة على ملء فجواته بالتفاصيل. لعلّ هذا ما يفسِّر لِمَ لا يكتب صاحب «بابا سارتر» (2001) رواياته بنبرة سردية واحدة. ولماذا لا تنطبع أعماله بمزاج أسلوبي موحَّد.
تجري أحداث الرواية الجديدة في جنوب غرب الصحراء العراقية، حيث تستعد القوّات العراقية لهجوم قوات التحالف المرتقب على العراق عقب غزو الكويت. المقتل المفاجئ لثلاثة من الضباط على أيدي عصابة يتزعمها شاب اسمه جسّاس من قبيلة بني جدلة البدوية، يحرف مصير فصيلٍ كامل من الجنود في اتجاه آخر. إذْ يكلَّفون بتعقب العصابة وقتلهم أو أسرهم بمساعدة دليلٍ بدوي اسمه منور من قبيلة بني جابر الموالية للدولة. لكنَّ الرواية تنتهي بمقتل أفراد الفصيل جميعاً، باستثناء الراوي الذي ينجو بالمصادفة ويقرر إتمام المهمة بمساعدة من قبيلة بني جابر. وحين يتمكن من أسر جساس ويحاول سوقه إلى مقر قيادته، يكتشف أن الحرب قد دمرت كل شيء، فيوقف شاحنة متجهة إلى الصحراء، ويطلب من جساس أن يصعد إليها ويهرب. أما هو فيشعر بنوع من العزاء لأنَّه كان شاهداً على مقتل زملاء له وروى حكايتهم.
الخاتمة تقول إنّ طرفي النزاع عادا إلى مكانيهما السابقين، الجندي/ الراوي إلى المدينة والبدوي إلى الصحراء. هذه واحدة من الخلاصات والتأملات المتعددة في الرواية. الأرجح أن صاحب «الطريق إلى تل المطران» (2005) بدأ بفكرة بسيطة عن تعقب فصيل عسكري لمجموعة من البدو، ثمّ راحت هذه الفكرة تتزيّا بطموحات سردية وفلسفية قادرة على حجب الحكاية الأولية وجعل الصحراء نفسها بطلةً مطلقة للرواية. ثمة حكاية محبوكة ومشوقة طبعاً، وهناك الخلفية التاريخية المتمثلة في تزامن الحدث مع حرب الخليج الثانية، فضلاً عن التفاصيل والهواجس الشخصية لأفراد الفصيل الذين يلقون حتفهم بسبب جهل قائدهم بقوانين الصحراء وخيانة

ريبورتاج جغرافي واجتماعي مكتظّ بأسئلة عميقة

الدليل البدوي لهم. لكنَّ الرواية تحبِّبنا بالصحراء ونكاد ننحاز إلى أزليتها وسكينة العيش فيها وإلى حرية جساس وقومه، مقارنة مع الحياة المعلَّبة في المدن. يُخبرنا الراوي أن قائد الفصيل بنى خططه بناءً على «مسك الأرض»، بينما جساس «يسخر من هذا الضابط الذي يحرس جنوده خِربةً، بينما هو يملك النهار والأرض والسماء فوق التلة الرملية المترامية. إنَّه لا يفقد الحاجات لأنه يترفّع عليها، ولا يؤمن بالمنازل لأنها سجون إرادية».
في موضع آخر، يبدِّل الراوي ثيابه العسكرية بزيٍّ بدوي ليسهل عليه الهرب بعد مقتل رفاقه، فنقرأ: «أخذ جسمي يرتخي وحواسي تلتهب وروحي تبرد... لقد شعرت أن هذه الملابس المتوائمة مع مناخ وحياة الصحراء حررتني من تلك الضيقة التي كانت تمنعني من أن أكون جزءاً من هذه الصحراء... لقد عرفت للمرة الأولى أن الله ليس بعيداً عني هنا، بينما كنت أشعر به بعيداً في المدينة». وفي مقطع آخر، يقول: «لم أعرف الله في المدينة إلا متوحداً في صورة القائد وصورة الرئيس... أما هناك فعرفت إله الصحراء وهو إلهي».
يُدير علي بدر الحدث وخلفيته التاريخية وحاضنه الصحراوي بذكاء وسلاسة، مانحاً القارئ لذّة التجوال بين هذه الطبقات الثلاث التي تسمح كل واحدة منها بتسرّب مذاقات الأخرى إليها. المقارنات التي لا تتوقف بين الصحراء والمدينة تخلق هوية فكرية وفلسفية للرواية. لم تعد الرواية حدوتة مسلية أو سرداً لغوياً منقطعاً عن سياقات اجتماعية وثقافية وسياسية. صارت علم اجتماعٍ من نوع خاص. رواية علي بدر أقرب إلى نشيد روائي للصحراء. إنها ريبورتاج جغرافي واجتماعي مكتظ بأسئلة كونية عميقة. أما حكاية الفصيل والعصابة البدوية فليست إلا جزءاً صغيراً من عالم الرواية الأكثر اتساعاً وعمقاً.