بيار أبي صعبوصوبَ الشرق أبحرت السفينة. على متنها نجوم «الضفّة الأخرى» جاؤوا إلى «معرض الكتاب الفرنكوفوني في بيروت». الفكرة على ما يبدو من سفير فرنسا في مالطا. لكن النتيجة تنسحب على الواقع الثقافي ـــــ السياسي في لبنان. إنّها إشارة لا تخطئ: الجانب الاستعراضي يطغى على ما عداه، في إطلاق تظاهرة أدبيّة وثقافيّة تجمع بين الضفّتين. قرن كامل، وما زالت الثقافة الفرنسيّة تأتينا من البحر. عجباً كيف لم تترسّخ بعد في التربة المحليّة، لتنبت أفكاراً وإبداعاً ومشاريع نهضويّة عربيّة، بدلاً من المناسبات المصطنعة التي تحمل طعجات كولونياليّة جديرة بمسرح البولفار؟
بالأمس إذاً رست «لا موز» المحمّلة كتّاباً فرنكوفون، على شواطئ بيروت ـــــ ربّما في المكان نفسه الذي شهد ترحيل الرعايا الأجانب في تموز 2006. هل قلت كتّاباً فرنكوفون؟ تحضرنا هنا الصرخة التي أطلقتها مجموعة من كتاب الفرنسيّة الذين تحلّقوا حول ميشال لو بري وجان روو قبل عامين، ضد تصنيف «الفرنكوفونيّة» الذي يستبطن تمييزاً بين الفرنسي الأصلي والفرنسي الطارئ (Pour une litterature-monde, Gallimard). رست السفينة قبل ساعة من موعدها المعلن. كأنّ حياءً متأخراً استبدّ بالمنظّمين، أو خجلاً مفاجئاً انتاب الكتّاب المستقدَمين كما لزيارة مستعمرة قديمة، فخبّأوا وجوههم وهرعوا بعيداً عن عدسات المصوّرين. أكان عليهم، أن يخرجوا من السفينة على ظهور الخيل الأصيلة التي ركبها قبلهم «لورانس العربي»، ويمضوا إلى فندقهم تحت وابل من الزغاريد؟
لا نكتب استخفافاً بكتّاب، بعضهم مرموق، جاؤوا للقاء الجمهور اللبناني، بل تخوّفاً من عدم توافر كل شروط التفاعل الحقيقي، والتواصل الجذري، اللذين يعطيان هذا اللقاء مذاقه ومعناه. المناسبات السياحيّة، لا تترك أثراً عميقاً عموماً. بعد أن ينتهي الكرنفال، ويعود كل كاتب إلى غربته الأليفة، سيبقى السؤال الحقيقي: ما الذي يصلنا اليوم في لبنان من الثقافة الفرنسيّة؟ ماذا فعلت الحكومات المتعاقبة في بلد فولتير، من أجل تصدير ذلك النموذج النهضوي الفريد، إلى لبنان والشرق، إلى ديار العرب والإسلام عموماً؟ بتعبير آخر: هل الفرنسيّة التي نحن بصددها هنا، هي لغة المستعمر أم نشيد الحريّة؟... هل الفرنسيّة عندنا من امتيازات نخبة متعالية على محيطها، منقطعة عنه، وأقليّة مذعورة تحتمي، بتركة الانتداب، من وجهها الآخر؟ أم هي لغة عابرة للشرائح والجماعات، تنغمس في أوجاع الناس وأحلامهم، وتتواشج مع ثقافتهم، وتحتضن مطالبهم، مشرّعةً آفاق التقدّم والتغيير؟ عن أي مرجع نتكلّم: لو كليزيو أم PPDA؟ ميشال أونفري أم دومنيك دو فيلبان؟ «فرنسيّة» سمير قصير أم «فرنكوفونيّة» ألكسندر نجّار؟
جان جينيه حلّ في الأيام القليلة الماضية ضيفاً على المسرحي العراقي ـــــ غير الفرنكوفوني ـــــ جواد الأسدي في بيروت. تحلّق حول «الأسير العاشق» عراقيّون ولبنانيّون وسوريّون وتونسي وفرنسيّة وأميركي. عجباً لهذا اللقيط، ما زال يرتاد الأماكن المشبوهة. هناك التقينا بالوجه المشرق للثقافة الفرنسيّة.