رغم خروج السينما المصريّة خالية الوفاض من «مهرجان الشرق الأوسط السينمائي»، أظهرت الأفلام المشاركة، ملامح تحوّل في الوعي المصري. عودة إلى تجارب تقارب العشوائيات وتبحث عن الزمن الضائع
وائل عبد الفتاح
السينما المصرية مختلفة في أبو ظبي. اختيار الأعمال المصريّة المشاركة في «مهرجان الشرق الأوسط السينمائي الدولي» الأخير كشف عن هواء طازج يعبر الجسد المترهل للسينما العجوز. مخرجون جدد، مثل أحمد ماهر وأحمد عبد الله، وأفلام هاربة من طرقها المتوقعة في السرد مثل «المسافر» و«هليوبوليس»، وانشغالٌ متزايد باكتشافات تفتح المدينة مثل شريط تهاني راشد «جيران».
إنّها لحظة تبدو فيها السينما المصرية، في جانبها اليقظ تحديداً، مشغولة بالبحث عن عالم مفقود، كما في «بنات وسط البلد» و«في شقة مصر الجديدة» لمحمد خان (سيناريو وسام سليمان). تظهر جميع الأعمال ملامح تحولات في الوعي، أكان عبر العناوين العامّة أم الحكايات الصغيرة والمتأملة في المكان.
تحكي تهاني راشد قصّة شارع «غاردن سيتي» الذي تحوّل قلعة حصينة للسفارة الأميركية
في «جيران» مثلاً، تبدو النوستالجيا الأكثر حضوراً. لكنّها ليست عاجزة تماماً، بل تبحث عن قوّة تنام تحت ركام المدينة الخاضعة لسلطة الفوضى والعشوائية. قوة لا تستسلم تماماً لشجن افتقاد العالم الجميل. الحديث هنا عن الطبقات المختلفة لشارع «غاردن سيتي» الذي تحوّل قلعة حصينة للسفارة الأميركية. ما هي حدود الجيرة بين القلعة وسكان الحي الراقي؟ تجاورات مثيرة تحدث إلى جانب تلك القلعة، بين السكان القدامى من أرستقراطيي القصور، وسكان السطوح الذين يعتبرون «غاردن سيتي» مكانهم أيضاً. إنّه الحي نفسه الذي يعتبر رمزاً لزمن مضى تاركاً رائحته الناعمة تتصارع مع روائح أخرى حريفة. حكايات لا تنتهي وقعت المخرجة في غرامها، فاقتربت أحياناً من ثرثرة تنقل الجوانب الهشة من «غاردن سيتي»، أيقونة القاهرة الغامضة باسمها الإنكليزي، وقصورها وشوارعها... بالهجمة عليها بعد الثورة ثمّ مع الانفتاح، بسكانها المختلطين والمهجنين. أيقونة تحتل قلبها السفارة، كعلامة على «احتلال المدينة» بشكل أو بآخر.
الثرثرة لدى تهاني راشد كادت تقتل الخفة، فيما أفلتت من الفخّ المذكور باكورة أحمد عبد الله «هليوبوليس». الشريط إنتاج مستقل، منخفض التكاليف، ومعظم الممثلين فيه من الهواة، إذا استثنينا خالد أبو النجا وعايدة عبد العزيز ومشاركة هند صبري بالصوت. لم تثقل الخطابات السينمائية التجربة، كما لم يغرقها الرثاء المجاني لضاحية مصر الجديدة ــــ عنوان الفيلم اسم هذه الأخيرة الفرعوني. يبدو الشريط للوهلة الأولى من فيلم Crash بول هاغيس الذي يكشف، عبر التصادم بين الأجساد السريعة، ما يحدث في المدينة. اختار «هليوبوليس» بناءً مختلفاً، ولعب على الفراغات التي تنشأ بين أفراد تكاد عوالمهم تتصادم. تبدو الشخصيات بهشاشتها كأنّها تشترك في احتفال. ويذهب العمل إلى ما هو أبعد من توقع الاصطدام بين الشخصيات، إلى الحديث عن منطقة تسيطر على شوارعها غوغاء عنيفة تفرض سطوتها ومزاجها العشوائي. رغم ابتعاده عن النوستالجيا، بدا الشريط أقرب إلى فيلم عن الوحدة في مدينة مزدحمة. الضاحية الجميلة غريبة وحيدة في المدينة. والشخصيات وحيدة تحت غارات العشوائيين. إنّها حالة عموميّة تجتاح حارس السفارة، المغرم بأغاني عبد الوهاب ويقيم علاقة مع كلب شوارع. علاقة تتوازى ربما مع العلاقة بين الطبيب المهاجر وكلبه، وكلها تكشف عن مشاعر من الحزن الرقيق.
جاء فيلم «المسافر» لأحمد ماهر، أقرب إلى تأمل الزمن الهارب. اختار المخرج بناء الشريط على ثلاثة فصول، كلٌ منها يحمل تاريخاً على علاقة بالآخر. من النكبة عام ١٩٤٨ مروراً بنصر حزيران ( يونيو) عام ١٩٧٣، وصولاً إلى هجمات ١١ أيول (سبتمبر) عام٢٠٠١، جاءت التواريخ كلّها عن العلاقة بين الذات والآخر وتغير ملامح العالم. تنتقل هذه التشابكات بين القصص الفرديّة والعامّة من خلال شريط الصوت في العمل، هو عبارة عن أغانٍ حول البهجة اللاهية من «حسن يا خولي الجنينة» إلى «خلي السلاح صاحي» وصولاً إلى الراب الحديث. عالم مفقود، تكشفه حكاية بسيطة: هل يمكن أن يشترك رجلان في إنجاب الطفل نفسه؟
سؤال عبثي من الناحية البيولوجيّة، لكنّ الخيال لا حدود له. يمكن الخيال أن يضرب ثوابت وحقائق، ضرباً فنياً، وهذا ما استدعى أسلوباً مختلفاً أقرب إلى الملحميّة، وتغريباً في التمثيل أزعج الذوق الكسول الذي تحجج بالإيقاع ليغطي عجزه عن السير خلف الفيلم لا أمامه.
تأمّل لحظات التفاعل مع الآخر هي بحث في العالم المفقود لا عنه. بحث يريد التحرر نظرياً من سؤال المفاضلة بين الأصل والهجين. تحرر يسير باتجاه حب الحياة والسفر في دروبها. ليس هناك زمن جميل ولا عصر ذهبي في «المسافر». هناك حياة مفتوحة تحتاج إلى الجرأة والشجاعة والمغامرة. إنّها كقفزة حسن (خالد النبوي) من الهواد إلى النيل، قفزة استعاد معها أيامه الثلاثة بكلّ هذه المتعة، الملعونة أحياناً.


«كاريوكا» نبيهة لطفي

كان لمصر في «مهرجان الشرق الأوسط السينمائي الدولي» محطة وثائقيّة، من خلال فيلم نبيهة لطفي «كاريوكا». المخرجة اللبنانية المقيمة في مصر تقدّم في شريطها مادّة أرشيفية، تجمع اللقاءات التلفزيونيّة والإذاعيّة التي أجرتها كاريوكا، إضافةً إلى صور فوتوغرافية وموادّ صحافيّة. تسرد لطفي قصة حياة الراقصة التي توفّيت عام 1999، وتنوّع سردها بلقاءات مع معاصرين لكاريوكا، ومع أفراد أسرتها وأبناء إخوتها. منذ فرارها من بيت عائلتها في الإسماعيليّة، حين كانت في الثانية عشرة من عمرها، مروراً بزيجاتها المتعددة ونجاحاتها الكبيرة، يحكي العمل قصّة امرأة أضاءت بحضورها ورقصاتها العديد من كلاسيكيّات السينما المصرية.« كان عندها شيء في شخصيّتها يميّزها عن غيرها، ولم تكن مجرد راقصة أو ممثلة بل سيدة بكل معنى الكلمة» تقول لطفي.