عودة إلى المقرئ الكبير الذي تأثّر بالشيخ محمد رفعت
ولد في صعيد مصر في عائلة أتقنت حفظ القرآن وتجويده. صار «مقرئ الجمهورية العربية المتحدة»، وتحوّل ظاهرة لم يشهد لها العالم العربي مثيلاً، بدءاً من حنكته في الانتقال من مقام إلى آخر... وصولاً إلى زخرفاته التطريبية. رمضان مناسبة للعودة إلى هذا المقرئ الأسطورة

بشير صفير
يُروى أنّ ضابطاً كبيراً في الجيش اللبناني ترك جنوداً كانوا برفقته في مهمة عسكرية، وتوجّه إلى أحد المنازل متتبِّعاً صوت تجويد كان يصدر منه. وعندما بلغ المَصدر، سأل الضابط صاحب الذائقة الموسيقية النادرة عن اسم المُقرئ، فأتاه الجواب: الشيخ محمد صدّيق المنشاوي. في هذه الحالة، لا تنفع سلطة العسكر. لكن الضابط ــــ وهو في الفنّ أعلى مرتبةً من رتبته العسكرية ــــ استخدم سلطة شغفه بالموسيقى والأصوات الجميلة، فألقى القبض على الشريط المسجَّل، واقتاده إلى سيارته العسكرية، حيث استمع إلى تجويد المنشاوي لـ«سورة يوسف» وقصار السوَر، فأدى له التحية متمتماً في سرّه: «أمرك سيدنا».



مقطع من "سورة النحل(الشيخ محمد صديق المنشاوي)"







هذه الرواية الحقيقية، قد تدعم الهدف من هذه الإضاءة أكثر من التحليل الموسيقي الجاف والكلام عن المقامات التي كان يستخدمها الشيخ المنشاوي في التجويد، وحنكته في الانتقال من مقام إلى آخر، وزخرفاته التطريبية. التفسيرات العلمية، مفيدة جداً للموسيقيين دون سواهم (مَن قال إن الموسيقيين أكثر حبّاً بالموسيقى من غيرهم!). والهدف هو: من له أذنان سامعتان، فليسمع المنشاوي، مهما كان دينه أو قناعته الفلسفيّة والفكريّة.



مقطع من "سورة النحل (الشيخ محمد صديق المنشاوي)"







لا مناسبة اليوم للكلام عن الشيخ محمد صدّيق المنشاوي (1920 ــــ 1969)، سوى شهر رمضان. مع ذلك، لا نبالغ في القول إن هذا المقرئ الأسطورة يستأهل التذكير به كل يوم، من دون سبب، ولا مناسبة، بل بدافع تقدير الموهبة الموسيقية التي ردّت الجميل إلى خالقها من خلال إطراب مخلوقاته.
ولد الشيخ محمد صدّيق المنشاوي في صعيد مصر، وهو من عائلة أتقنت حفظ القرآن وتجويده. شقيقه محمود المنشاوي (1943)، ووالده صدّيق السيّد وعمه أحمد السيّد وهم من المقرئين المعروفين. بدأ محمد بحفظ القرآن في الرابعة من عمره وختمه قبل بلوغه الثامنة. بعد الحفظ، درس أصول القراءة مع الشيخ محمود السيِّد الذي أعجِب بصوت الفتى الصغير وموهبته، فراح يقدمه في سهرات التجويد. «مقرئ الجمهورية العربية المتحدة»، كما كان يُلقَّب، راح يغذي ثقافته من خلال الاستماع عبر الراديو إلى كبار المقرئين المصريين المعاصرين، وتأثر تحديداً بالشيخ محمد رفعت.



مقطع من "سورة الإسراء (الشيخ محمد صديق المنشاوي)"







كان الشيخ المنشاوي متواضعاً، قريباً من المساكين، ومؤمناً، سخَّر موهبته لنشر رسالة القرآن بعيداً عن أضواء الشهرة التجارية. ووَرَد في إحدى سيره الشخصية أنه كان يلبي دعوات الرؤساء لتلاوة القرآن، لكنّه لم يكن يفعل ذلك من باب الطاعة. والدليل أنّه في أحد الأيام بعث الرئيس جمال عبد الناصر بأحد وزرائه لدعوة المنشاوي إلى إحدى المناسبات، فجرى بين الرجلين هذا الحديث: «ألا يكون لك الشرف حين تقرأ بين يدي الرئيس؟». أجاب المنشاوي: «ولِمَ لا يكون هذا الشرف لعبد الناصر نفسه أن يستمع إلى القرآن بصوت المنشاوي؟». ورفض الدعوة.
التواضع الذي تمتع به الشيخ المنشاوي، قابله كبرياء الكبار وعزّة نفسهم. وهذا إن دلّ على شيء، فعلى الثقة بالنفس وعلى تقديم سلطة الإبداع وعظمته على أي سلطة. وقد تقدّم تلك الشخصية غير المتزلفة تفسيراً أساسيّاً لعدم تكريمه من الحكومة المصرية، فيما نال أعلى الأوسمة في العالم العربي والإسلامي، من إندونيسيا إلى سوريا.
لا يختلف اثنان على قيمة الشيخ أحمد صديق المنشاوي. علماً بأنّ الكثير من المقرئين أبدعوا تجاويد وتراتيل خالدة، ونذكر منهم الشيوخ عبد الباسط عبد الصمد (1927 ــــ 1988) وأحمد نعينع ومحمد عمران ومحمد سليم، وغيرهم. لكل مقرئ أسلوبه في التجويد أو الترتيل. ولكل منهم ميزات خاصة أو مشتركة مع الآخرين. لكن المنشاوي اجتمعت في موهبته كل العناصر الجمالية والموسيقية التي جعلت منه شخصية استثنائية في التجويد، قد لا نشهد مثيلاً لها بعده: يستهل القراءة على طبقة منخفضة، ويعلو تدريجاً ليصل إلى ما لا تتوقعه أذن. وعندما يعود فجأة إلى تلاوة جهورية، قُلّ «الله أكبر» مسبقاً أثناء مساحة الصمت الفاصلة. فما سيلي الاتكاء على الطبقة المنخفضة، لن يكون بشرياً. وإذا قطع النفس محْدِثاً فراغاً قاتلاً في توقفه عند الهمزة أو حرف «القاف»، فكثِّفْ التكبير واستنجِدْ بالآيات.

جمعت موهبته كل العناصر الجمالية والموسيقية، فجعلته شخصية استثنائية في عالم التجويد
يصل المنشاوي في تجويده إلى الأوج، ويسقط ثم يعود إلى أوجٍ ثانٍ فثالث ورابع... ثم يثبت في ما بقي من السورة (أو ما تيسَّر منها)، مجوداً بسلام يريح المستمع لكن يبقيه حذراً حتى الثواني الأخيرة قبيل أن يختم صلاته بـ«صدق الله العظيم».
يُنصح بأي تسجيل للشيخ محمد صدّيق المنشاوي، علماً بأنها نادرة نسبياً، ومعظمها رديء التسجيل. لكن هذا المقرئ الذي أبدع في كل السوَر، تخطى نفسه أحياناً، وتحديداً في قراءة ما تيسَّر من «سورة المؤمنون» التي تحوي أنغاماً تُخجِلُ مطربي الزمن التعيس.
أصيب المنشاوي بداء دوالي المريء عام 1966، فنصحه الأطباء بالتوقف عن التجويد كي لا يرهق حنجرته. لكن الشيخ لم يمتثل للنصائح، بل أكمل الرسالة قبل أن يرحل وهو في عزّ عطائه، عام 1969، تاركاً فراغاً لا يخفف من وطأته سوى ما وفّره التسجيل لنا من ذبذبات صوت السماوات على الأرض.


نبذة عن أهم المقرئين



عبد الباسط عبد الصمد
(1927 ــ 1988)

يُعتبَر الشيخ عبد الباسط عبد الصمد (1927 ــــ 1988) من أهمّ المقرئين في مصر والعالم الإسلامي، وهو من دون شك من أشهر الأسماء في مجال تجويد القرآن وترتيله، وذلك لكثرة تسجيلاته القيمة التي لقيت إنتاجاً لائقاً سهَّل انتشارها الواسع في العالم.

أحمد نعينع
(1954)

ولد الشيخ أحمد نعينع في مصر عام 1954، وهو مقرئ مرموق، علماً بأنه درس الطب أيضاً. حفظ القرآن وتعلم تجويده على يد الشيخ أحمد الشوا. هو من الرموز الأحياء لهذا التراث، وقد تأثر بالمقرئ المصري الشهير مصطفى إسماعيل واعتمد أسلوب الأخير في التجويد.

مصطفى إسماعيل
(1905 ــ 1978)

ولد الشيخ مصطفى إسماعيل عام 1905 في كنف أسرة مصرية ذات شأن، وحفظ القرآن وهو في الثانية عشرة من عمره. ترك تجاويد كثيرة وطبع بأسلوبه كبار المقرئين المعاصرين. عينه الملك فاروق ليكون المقرئ في القصر الملكي في شهر رمضان. توفي عام 1978.

إمام عيسى
(1918 ــ 1995)

عُرف الشيخ إمام (1918 ــــ 1995) بميوله اليسارية من خلال أغانيه الكثيرة التي كتب معظمها رفيق دربه الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم. لكنه تعلم قراءة القرآن أيضاً وله تسجلات قليلة



مقطع من "سورة البقرة"(الشيخ إمام عيسى)







ونادرة جداً، لكن المجتمع المتدين لم يتبنّها، مقابل اعتباره ركناً فنياً في الأوساط اليسارية والشيوعية تحديداً.




محمد رفعت
(1888 ــ 1950)

ولد الشيخ محمد رفعت عام 1888، وفقدَ بصره إثر مرض أصابه وهو في الثانية من عمره. رغم ذلك، اجتهد الطفل الضرير بحفظ القرآن وتعلم التجويد، فأصبح من أهم المقرئين في مصر. توفي عام 1950 بعدما توالت عليه أمراض كثيرة، لكنه ترك روائع في التجويد جعلته علماً من أعلام الإسلام.

محمود خليل الحصري
(1917 ــ 1980)

ولد الشيخ محمود خليل الحصري عام 1917 وتابع دراسات دينية قبل أن يتفرغ لتعلم أصول تجويد القرآن. تمتع بصوت استثنائي جعله يدخل الإذاعة المصرية عام 1944 ويتلو قراءاته على الهواء، كما تنقل بين العديد من المساجد الكبيرة وتوفي في القاهرة عام 1980.