«ديناصور» المسرح التونسي يستعيد علي الدوعاجيتونس ـــ سفيان الشورابي
في الذكرى المئويّة لولادة علي الدوعاجي (1909 ـــــ 1949)، تولّى توفيق الجبالي مهمّة إعادة الاعتبار إلى الأديب التونسي المؤسس، عبر عمل ينتمي إلى عالم هذا المسرحي المشاكس، ويتميّز عنه في آن. هكذا أبصرت النور مسرحيّة «مانيفستو السرور» التي جالت في مهرجانات الصيف التونسيّة، من «الحمامات» إلى «قرطاج»، قبل أن تصل إلى العاصمة، وتحديداً إلى فضاء الـ«تياترو» الذي يديره الجبالي نفسه، حيث انطلقت مساء أمس، وستستمرّ حتّى 19 أيلول (سبتمبر) الحالي.
عندما ينجز توفيق الجبالي عملاً جديداً، علينا أن ننحني... هذا ما تردد في كواليس الفنّ الرابع طويلاً. لكنّ بعض الجمهور والنقد صار يرى، مع السنوات، أنّ مؤسس El teatro تحوّل إلى «ديناصور» المسرح التونسي، إذ استنفد كل ما يريد قوله ولم يعد قادراً على تجاوز مكتسباته ومفاجأة جمهوره، بحسب بعضهم. فهل جاء الجبالي ليقلب المعادلة من جديد؟ الممثل والمؤلف والمخرج الذي عرفه الجمهور اللبناني من خلال «مجنون» جبران، و«لصوص بغداد»، و«هنا تونس» وأخيراً «مذكرات ديناصور»، هل دخل في تجربته الأخيرة مرحلة إعادة النظر في أدواته وأسلوبهأشاد بعض المتابعين بعرض قارب كتابات الدوعاجي من كل جوانبها، واتهمه بعضهم الآخر بالافتقار إلى حرفية الجبالي المعهودة. بعيداً عن هذا وذاك، نجح العمل في نقل الجمهور إلى مرحلة مهمة من تاريخ تونس المعاصر، تغيب حتّى عن كتب التاريخ المدرسية. يقوم العمل على جهد ممثّلين شباب من طلاب «تياترو ستوديو» (ورشة التكوين المسرحي التي يشرف عليها الجبالي). ينقلنا هؤلاء، عبر أجواء الفرجة، إلى مشاهد واقعيّة من حياة الطبقات السفلى، في عرض كتبه الجبالي بالاشتراك مع رجاء فرحات، ووضع له السينوغرافيا غازي الزغباني ونوفل عزرة.
في «مانيفستو السرور» نتتبّع أجواء كتابات علي الدوعاجي الساخرة والهزلية الشهيرة، كما تجلّت في «بلاد الترنني» و«سهرت منه الليالي» و«جولة بين حانات البحر المتوسط»... بالطبع، يصعب على عمل واحد أن يحيط بكلّ آثار الشاعر الرائد (300 نص مسرحي و150 قصة قصيرة و150 قصيدة غنائية). أسهم الدوعاجي، كاتبا وصحافياً، في إثراء الحركة الثقافية في تونس خلال النصف الأول من القرن العشرين، مع أدباء ومثقفين عرفوا بـ«جماعة تحت السور». وكان من أبرع الكتّاب باللغة المحكيّة التونسيّة، قبل أن يقضي بالسل جرّاء حياة هامشيّة صاخبة، ملؤها الإسراف والإدمان. عُرفت جريدة «السرور» التي أصدرها عام 1936 بمقالاتها ورسومها السياسية الساخرة، ومن اسمها استوحى الجبالي عمله، حريصاً على أن تنبع رؤيته في مسرحة هذا الرصيد الغني، من وعي بالظرف التاريخي الذي احتضن تلك التجارب «النقديّة» على اختلافها...
هنا، اختار الجبالي مسرحة حكايات عن تونس العوالم السفليّة، «تونس الأعماق»، خلال الثلث الأول من القرن الماضي. في عرضه تنبعث حكايات وعلاقات وإبداعات فطرية، طالما طمست عن التاريخ الرسمي للثقافة التونسيّة، وغُيّبت وصنّفت في خانة المحظورات الأخلاقية. كتب الدوعاجي عن العلاقات الجنسية المتحررة، ونضال المسحوقين من أجل خبز يومهم والمخدرات والمشروبات الكحولية... كتب يسخر من الضوابط الأخلاقيّة والنفاق الاجتماعي، وغنّى الحب والسعادة والطمأنينة من منظور الفقراء والمحرومين. كان الدوعاجي «فنان الغلبة» بامتياز، ورافقه هذا اللقب طيلة حياته.

مرحلة تأسيسيّة غيّبها التاريخ الرسمي، وصُنّفت في خانة المحظورات

لكنّ التحدي الأكبر الذي واجهه الجبالي كان تقديم قراءة معاصرة لهذا التراث الأدبي وتلك السيرة الفريدة، مخاطباً الواقع الراهن وإنسان اليوم... استند في ذلك إلى روافد جماليّة مختلفة: موسيقى الجاز وقراءات مغنّاة من أشعار الدوعاجي (أدّتها مجموعة «سلام عليكم»)، إلى الكوريغرافيا التي نظّمت حركة الممثّلين على الخشبة، والاستعمال الخاص للإضاءة خلف جدران من الأقمشة كما في المسرح الصيني... هكذا تجاوز عائق الزمان والمكان، إلى فضاء افتراضي وثيق الصلة بـ«الآن وهنا».
على المسرح تحوّلت آلام البؤساء السوداوية إلى موضوعات ساخرة من السلطة في كلّ زمان ومكان، فإذا بالمضطهدين والصعاليك يتحكّمون في حركة التاريخ: «ونحنا بس بنسأل/ بنحاول نستفيد/ بنحاول نفتح طاقة/ ونكسر باب الحديد». هكذا جاء «بيان السرور» لوحة للأديب المتمرّد علي الدوعاجي ولعصرها، رسمها الجبالي بأدوات اليوم وهواجسه. ولجأ إلى لمسات تجريدية، لم يفهمها جزء من الجمهور، وهاجمتها بعض الصحف التونسيّة.
علي الدوعاجي عاش متمرّداً طيلة حياته، ونجح في التعبير عن الأرضيّة الخصبة لبيئته الاجتماعية، لكنّه لم يحسب حساب الموت، وربما ترك للقدر أن يلعب لعبته. وتوفيق الجبالي صنع له مجسّماً، استخدمه في المشهد الأخير من المسرحية، حين يروي اللحظات الأخيرة من حياة الدوعاجي، ووفاته محاطاً بممرضتين لا تباليان بوجعه العضال. بعد الموت، تتحلّق حول جثمانه صحافية ومصوّر، لتصوير «النجم» علي الدوعاجي، وهو يُنقل إلى مثواه الأخير، بينما يمرّ إلى جانبه موكب زفاف، يرقص فيه الكل ويغني غير مبالٍ بمن كان فعلاً... صوت الفرح الذي يخاطب الناس المقهورين.


حتى 19 أيلول (سبتمبر) ــــ مسرح الـ«تياترو»، تونس العاصمة:
313 894 - 71 - 216 +
www.elteatro.net