يذهب الباحث السعودي إلى تفنيد التنميطات السائدة والمتبادلة بين السنّة والشيعة في المملكة، والخلاف الذي يعود إلى زمن الرسول. لكن هل المشكلة هي مسألة شيعة وسنّة، أم مشكلة مجتمع كامل ما زال بعيداً عن الحداثة والديموقراطية؟
حسين بن حمزة
منذ البداية، يطلب الباحث السعودي إبراهيم الهطلاني من القارئ أن يُعامل كتابه «الشيعة السعوديون» (دار الريس) بوصفه محاولة متزنة، وغير منحازة، لتقديم قراءة تاريخية وسياسية لواقع الشيعة في السعودية. المؤلف يعرف أنّ الموضوع صعب وشائك، وقابل لقراءات مغرضة أو قائمة على أفكار ووجهات نظر مسبقة وجاهزة. لذا تراه يسارع إلى التأكيد أنّ كتابه «لا يهدف إلى إظهار عيوب أو طمس محاسن ... ولا يسعى إلى استرضاء جهات طائفية على حساب أخرى».
إنّه يدرك صعوبة تحقيق انقشاع، ولو طفيفاً، في التنميطات السائدة والمتبادلة بين السنّة والشيعة، ما دام هناك «صورة نمطية وحادة رُسمت في الذهنية الشيعية منذ أربعة عشر قرناً عن أهل السنّة، وغُذِيت عقائدياً وتربوياً من خلال المراجع الدينية، واستُخدمت في مراحل تاريخية عدة من جهات سياسية وإقليمية... كما استُخدمت الشعارات السنية كذلك وللأسباب نفسها». يكرر المؤلف أنّ بحثه محكوم بألغام وعوائق، فيرى أن الظلم والحرمان في السعودية لم يفرقا بين الشيعة والسنّة.
الكتاب، بهذا المعنى، لن يسلم من التنازع والاختلاف حول محتوياته، ومؤلفه لن يعدم مَن سيأخذون محاولته على محمل الجد والنقاش العلمي والمنطقي. لكنه لن ينجو ــــ في الوقت نفسه ــــ ممن سيعتبرون جهده مجرد تبيسط لخلاف مذهبي وسياسي مستحكم ومتشعب. وهو خلاف يعوم على طبقات دينية وتاريخية متراكمة تعود إلى زمن الرسول وبداية نشوء التشيع مع أزمة الخلافة ومسألة أحقية علي بن أبي طالب بها. ولأن الأمر كذلك، فالهطلاني يبدأ كتابه من اللحظة الزمنية ذاتها عبر فصل أول يخصصه لمناقشة أصل التشيع وظروف نشأته، مركزاً على تاريخه القديم والحديث في الخليج العربي. ويتناول في الفصل الثاني العلاقة بين الشيعة والحكم السعودي. وهي علاقة مرت بثلاث مراحل تتوازى مع الأطوار الثلاثة لحال الدولة السعودية. الأرجح أن معظم جهد الهطلاني موجود في هذا الفصل الذي يعالج فيه حقبة حديثة تبدأ من عام 1745، تاريخ نشوء الدولة السعودية الأولى وتستمر حتى اليوم. وهي حقبة قابلة لقراءة تاريخية وسياسية، يمكن عبرها عرض وجهة نظر أكثر دقة وملموسية عن الأحداث التي جرت والعلاقات التي حكمت علاقة السلطة السعودية مع مواطنيها الشيعة.
يرى الهطلاني، مستنداً إلى مصادر عدّة، أن إخضاع الدولة لمناطق الشيعة لم يختلف عما حدث من عمليات إخضاع في مناطق أخرى. وهذا يعني أنّ الشيعة لم يُستهدفوا أو يُضطهدوا بسبب مذهبهم بل لأنهم رفضوا الخضوع للسلطة. إنها قراءة معاكسة للقراءة التي قدمها عدد من الباحثين والمعارضين السعوديين الشيعة على رأسم حمزة الحسن صاحب كتاب «الشيعة في المملكة العربية السعودية». وقد استخدمه المؤلف كمرآة معاكسة لأطروحاته في الكتاب، متهماً إياه بتقديم انتمائه المذهبي على ما جرى من حقائق على الأرض، وبأنه جنح عن مسار البحث العلمي والموضوعي.

استُهدف الشيعة لأنهم رفضوا الخضوع للسلطة

الواقع أنّ الهطلاني في اتهامه لحمزة الحسن، يتهم توجهاً عاماً وسائداً لدى أغلبية شيعة السعودية. إذْ لن يكون سهلاً ــــ في نظر هؤلاء ــــ أن المظالم التي تعرضوا لها كانت بسبب السياسة وحدها. ويتوضح عمق الخلاف بين الطرفين كلما اقتربنا من الراهن، حيث الأحداث والوقائع أكثر قابلية للمعاينة والاستنتاج. والحال أن القول بوجود سنّة محرومين في السعودية لن يقلل من شأن الحرمان الشيعي فيها. ثمة صعوبة اليوم تواجه أي محاولة لفكّ الاشتباك بين المصالح والأهداف الدينية وبين المصالح والأهداف السياسية. لعل الواقع السعودي المحاط بأسوار عالية من الكتمان والسرية يسهم في تغذية التصورات السائدة لدى مواطنيها السنّة والشيعة، وكذلك لدى القراء والدارسين خارج السعودية.
أهمية كتاب الهطلاني تكمن في جعل تفاصيل الواقع السعودي متاحة لشرائح واسعة من القراء العرب الذي تكاد معلوماتهم عنه تلامس الصفر.
الكتاب يخبرنا أن التركيبة السكانية لشيعة السعودية تضم ثلاث فرق: الأولى هي الإمامية الاثني عشرية ومكانها في منطقة الإحساء والقطيف شرقاً، والمدينة المنورة غرباً، وهي الأكبر حجماً وتأثيراً... الثانية هي الإسماعيلية في نجران... والثالثة هي الزيدية المنتشرة في بعض مناطق الجنوب والغرب. القارئ العربي يعرف أن ثمة صراعاً مكتوماً بين السلطة السعودية والشيعة فيها، لكنه لا يعرف السياق التاريخي والسياسي الذي نشأ فيه هذا الصراع. وهو صراع شهد في العقود الأخيرة تطورات مفصلية، وخصوصاً بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران. الكتاب يذكرنا بالتأثير الإيراني الواضح على الشيعة في السعودية والبحرين. يستعرض المؤلف نشوء تنظيم «حزب الله الحجاز» وإشهاره في إيران عام 1987، ومسؤولية هذا الحزب عن عمليات استهدفت منشآتٍ وأهدافاً سعودية أهمها تفجير منطقة الخُبَر عام 1996.
لا شك في أنّ الهطلاني جازف بالدخول إلى موضوع إشكالي ومحكوم بتأويلات وقراءات متضادة، على أمل أن ينضم إليه باحثون آخرون، سواءً كانوا مؤيدين لوجهة نظره أو مناوئين لها. لكن السؤال الذي ينبغي طرحه هو: هل المشكلة هي مسألة شيعة وسنّة، أم هي مشكلة مجتمع كامل تحول أسوار وألغام بينه وبين الحداثة والديموقراطية والحقوق المدنية للمواطنين؟