من أنت؟» سأله حنّا نقارة. أجاب: «أنا محمود درويش، من البروة». فقال له: «أنت مكانك معنا في «الاتحاد»». هكذا بدأ العمل في صحافة الحزب
حيفا ــــ غالب كيوان
على رغم الانتقاد الذي تعرّض له عندما أقام أمسية شعرية في حيفا عام 2007، ورغم الفكرة السائدة بأنّ هذه الزيارة هي الأولى له إلى حيفا، إلا أنّ محمود درويش زار البلاد كثيراً قبل ذلك. لم يزرها فقط في عام 1996 للمشاركة في جنازة الأديب والصحافي وعضو الكنيست السابق إميل حبيبي الذي كان له أثرٌ كبيرٌ في حياته. بل كانت لدرويش زيارات أخرى للمشاركة في مناسبات مختلفة، بينها زيارة عام 1999، حين سُمح له بزيارة أمه وعائلته. هذا ما يؤكده عصام خوري أحد أبرز أصدقاء درويش: «عاد محمود بعد أوسلو إلى رام الله. وخلال فترة حكومة رابين ـــــ بيريز، دخل البلاد مرات عدة في «زيارات شخصية»، وكنت أذهبُ بنفسي لإحضاره من جنين».
الشاعر سالم جبران الذي قطن معه في حيفا، وكان زميله على مقاعد الدراسة خلال فترة الثانوية في كفر ياسيف، يقول: «أنهينا المرحلة الثانوية... ولم يكن ممكناً أن نعمل في سلك التربية والتعليم بسبب الأشعار التي كنّا ننشرها. هكذا، ذهب محمود للعمل في عكا في «مطبعة القبس»، وأنا عملتُ في مطعم. وفي السنة عينها، اتّصل بنا المرحوم إميل حبيبي بواسطة رفاق في الحزب، ودخل محمود للعمل في مجلة «الجديد»، وأنا في مجلة «الغد». ثم صدرَ ضدنا أمرٌ عسكري بما يسمى الإقامة المنزلية. وهذا يعني أنّك حرٌّ في النهار وطليقٌ في حيفا. لكن في الليل، يجب أن تكون في بيتك. وفي تلك الفترة، سافر المؤرخ والقيادي الشيوعي إميل توما للدراسة في الاتحاد السوفياتي وقطنا معاً في منزله في شارع عبّاس».
كان يتهيّأ لخطابات عبد الناصر كمن يؤدّي طقساً مقدّساً
الشاعر سميح القاسم يروي قصة مختلفة عن انضمام محمود درويش إلى الحزب وصحافته. يقول: «عمل محمود مراسلاً في صحيفة «المرصاد» التابعة لحزب «مبام». وخلال مؤتمر في مدينة عكا حول قضية الأرض، راح يطرح بعض الأسئلة على حنا نقارة الذي سأله: من أنتَ؟ فأجاب: أنا محمود درويش من البروة. فقال له: أنت مكانك في صحيفة «الاتحاد»، وهكذا بدأ محمود العمل في صحافة الحزب».
الحزب الشيوعي الإسرائيلي في تلك الحقبة كانت لديه مؤسساته الإعلامية كصحيفة «الاتحاد» اليومية، ومجلات مختلفة، من أبرزها «الجديد» و«الغد»... وهذا ما دفع الحزب إلى تجنيد شعراء ومثقفين لم يجدوا منصةً للتعبير سوى من خلال الحزب في تلك الفترة.
وبحسب إحدى الشهادات التي رفض صاحبها أن يفصح عن اسمه، فإن انضمام محمود درويش إلى صفوف الحزب الشيوعي، يقع على كاهل المؤرخ والقيادي الشيوعي البارز إميل توما الذي كان درويش يكنّ له احتراماً كبيراً. يومها، قال توما لدرويش في إحدى جلساته معه: لا يعقل أن تبقى خارج صفوف الحزب، وأنت تكتب في صحافته. وبحسب الشهادة عينها، قال درويش لأشخاص مقرّبين: «أنا لا أستطيع أن أرفض طلباً لإميل توما».
في المقابل، يفتخر سميح القاسم ويقول: «أنا أول صحافي أعمل من دون شرط الانتماء إلى الحزب الشيوعي. في تلك الفترة، كنّا أنا ومحمود أصدقاء للحزب، لكننا كنا مؤيدين للتيار القومي الناصري. لقد كنّا أيضاً قريبين جداً من «حركة الأرض». لكن عندما بدأ الخلاف بين «حركة الأرض» والحزب الشيوعي، ملنا أكثر إلى الحزب».
الشاعر سالم جبران يؤكّد بدوره أنّه ودرويش، كانا متأثرين بالتيار القومي الناصري: «في فترة الثانوية، جمعتني أنا ومحمود صداقة متينة مع أستاذنا مطانس مطانس الذي كان يدرّسنا اللغة العربية. كنا نتردّد على بيته ويختار لنا الكتب، وبينها دواوين الياس أبو شبكة، ويوسف الخال، والجواهري، وعمر أبو ريشة وغيرهم من الذين لم تكن كتبهم متوافرة إلا في مكتبات المثقفين الانتدابيين. وكان أستاذنا يدير معنا نقاشات عميقة ويقول دائماً: فلسطين راحت، لكن فلسطين في وعيكم واللغة العربية في وعيكم. وإذا حافظتم على وعيكم، فلا شيء يضيع».
ويمضي جبران: «تأثّرنا باللغة والأدب والشعر العربي، وملاحظات أستاذنا حول الوعي وحبّ اللغة العربية والتاريخ والرموز، إضافة إلى قراءاتنا... كل هذا شدّنا بلا محالة إلى التيار القومي. في الليلة التي كان يخطب فيها عبد الناصر، كنّا نستحمّ ونتطيّب كما لو أنّنا نستعدّ لتأدية طقوس مقدّسة... ثم نستمع إليه على الراديو».


الشاعر الذي فضّل الحبّ على النساءسالم جبران، الذي قطن مع درويش فترة طويلة، يكشف أسرار علاقات درويش الغرامية: «كان على علاقة مع خمس أو ست شابات، ونحن في حيفا. لكن كان يصعب عليه أن ينام في غرفة مع أحد. كان يغلق غرفته ويمارس حياته الخاصة مع الشعر. وكان يوقظني مراراً في ساعات الليل ويقول: استيقظ هنالك قصيدة جديدة. ويقرأها لي في الساعة الثانية أو الثالثة صباحاً».
ويكشف عصام خوري أنّ درويش أقام العديد من العلاقات مع شابات يهوديات، معظمهن يساريات أو منخرطات في الحزب الشيوعي: «لقد كان محمود انتقائياً في كل شيء. في شعره، هو انتقائي، حتى في طعامه وشربه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى النساء. جميع صديقاته كنّ جميلات للغاية. لكن الحديث عن علاقة مع خمس أو ست شابات أمر مبالغ فيه. أعتقد أنّه كان على علاقة مع شابتين أو ثلاث».
وحول السؤال من هي «ريتا»، التي كتب درويش قصيدة عن علاقته معها، وهل كانت هذه العلاقة جدية للغاية، أم هي «ريتا» وهمية تمثّل فلسطين؟ يقول خوري إنّ «ريتا» هي فتاة يهودية، وكان محمود على علاقة معها، وهي ليست حبّه الأزلي ومأساة حياته. ولقد أحبّ نساءً أخريات غيرها في ما بعد».
وبحسب عصام خوري، فإنّ محمود كان يضع حدوداً في علاقته مع أصدقائه بالنسبة إلى حياته الخاصة. ولم يسأله يوماً، على سبيل المثال، لماذا لا يسعى لإنجاب طفل، يقول: «أنا لم أطرح عليه يوماً هذا السؤال كي لا أمسّ خصوصياته. لكن زوجتي كانت تفعل، وكان يجيب مازحاً: سأجلب المرة القادمة معي عروساً جميلة».
ويضيف خوري: «لقد كان إنساناً كريماً وموهوباً ليس فقط في كتابة الشعر، بل في صرف الأموال أيضاً (يضحك). المال لم يكن يوهمه بتاتاً. كان بالنسبة إليه وسيلة للعيش». عدا الشعر، كان درويش يحبّ السهر مع الأصدقاء وقضاء الوقت الممتع. كان يحبّ المطاعم الجيّدة، وجلسات الأنس في المنازل، واحتساء النبيذ و... العرق اللبناني.
غ. ك.