دفاعاً عن فلسفة الاختلاط عبر أغاني اللانتماء والسفرزينب مرعي
هناك غزوات حصلت وأخرى لم تحصل. وهناك أماكن موجودة وأخرى غير موجودة. لكن من أنت لتقرّر ما هو موجود وما هو غير موجود، مَن غزا مَن، وأيّ شعوب التقت في تاريخٍ ما، فاختلطت ثقافاتها وامتزجت موسيقاها... ما تطلّب مئات السنين ليحصل، يجري كلُّه in vitro في «مختبرات ألفتريادس». نعرف ميشال ألفتريادس فناناً ومنتجاً وموزّعاً من نوع آخر. لا يطيق التقليد في موسيقاه، يحب التجارب الجديدة ويسعى دوماً إلى تقديم إضافة إلى الموسيقى. مبدأه في الحياة أن «لا تشبّه المرأة بوردة». وحده أوّل من ابتكر هذه الصورة الشعريّة كان شاعراًفي إدارته لشركة إنتاجه، لا ينتظر أن يأتي إليه فنان مع تسجيله الصوتي، ولا يسعى إلى استقطاب الأسماء الكبيرة، بل يشبّه نفسه هنا بالطاهي. عندما يريد ابتكار وصفة جديدة، يتخيّلها أمامه، يتذوّق طعمها في فمه، ثمّ يذهب بعدها للبحث عن المكوّنات. في وصفته التي يقدّمها اليوم، فكّر ألفتريادس: «مغنّي فلامنكو، غجري حافَظ على جانبه المتوحّش (وهو نوع من مغنّي الفلامنكو الذي أصبح في طور الانقراض)، منفتح على الأفكار الجديدة والجريئة، ليس مصاباً بداء الغرور ويحبّ أن يقدّم شيئاً جميلاً من دون أن يأخذ الأمور بجدّية كبيرة». هكذا وقع الاختيار على خوسيه غالفيز (1977)، الفائز بجائزة «فيريا فلامينكا» عام 2000 ووريث التقليد الغجري النقي لغناء الـ«كانتي خوندو» المرافق للفلامنكو. وكانت النتيجة أسطوانة «غالفيز وأوركسترا نوويرستان الوطنيّة».
يقول ميشال ألفتريادس إنّه وجد لدى غالفيز الصوت الغجري الأصيل. ما هو الصوت الغجري الأصيل؟ يشرح ألفتريادس وهو أحد المتخصصين في الغجر، أنّه باختصار كلَّما كنت عنيفاً في تعاملك مع

مزج موسيقى غجر البلقان بأغنيات طوني حنَّا، والغجر الرومان بعبد الكريم الشعّار
أوتارك الصوتيّة، كان ذلك أفضل لغنائك. يأتي هذا الاعتقاد القديم لدى الغجر، من كونهم قد عملوا قديماً حدَّادين في النهار يجتمعون ليلاً للغناء. الحرارة المنبعثة من الحديد أضرَّت بأوتارهم الصوتيَّة، فصاروا يفضّلون الصوت الخشن والممزّق في هذا النوع من غناء الفلامنكو. يُعدّ غالفيز ـــــ رغم ابتعاده عن الحدادة ـــــ من المغنّين القليلين الذين ما زالوا يؤمنون بهذا التقليد... هكذا، يشرب الكحول قبل الصعود على المسرح، ويواظب على أكل مكعّبات الثلج طيلة النهار، إضافةً إلى الحَرّ. فكلّما تأذّت أوتاره الصوتيّة، كان ذلك أفضل بالنسبة إليه، وإلى أسلوب غنائه.
والصوت الغجري الأصيل يوازيه ـــــ لدى ألفتريادس ـــــ رفض لموسيقى متجذّرة في مكان وثقافة معيّنة. في رأيه، الموسيقى التي لم تختلط بثقافات أخرى ولا يبين فيها المزج، لا تتقبّلها الأذن. من هذا المنطلق، كان حجّه الأوّل إلى ثقافة الغجر وموسيقاهم، فتعلّم لغتهم وعاش فترة بينهم. موسيقى الغجر هي عبارة عن مزج حقيقي للثقافات، يضيع فيه الأصل، فلا موسيقى غجريّة أصيلة إلا بترحال أصحابها الدائم. يخبرنا ألفتريادس أنّه منذ هجر الغجر مدينة «راجستان» في الهند قبل حوالى ألف سنة، وهم في ترحال دائم. سفرهم جعلهم يتأثَّرون بثقافة البلد الذي يمرّون فيه وبموسيقاه، فأخذوا من الفرس والعرب ومن أهل اليونان وأوروبا والبلقان... اليوم تتفرّع موسيقى الغجر بعدما تفرّقوا وتأثرّوا بأماكن وجودهم المختلفة. على سبيل المثال، تختلف موسيقى الغجر المعروفين بـ «النّوَر» في البلاد العربيّة عن تلك التي يعزفها غجر روسيا مثلاً أو أي بقعة أخرى من الأرض.
مزج ألفتريادس موسيقى غجر البلقان بموسيقى طوني حنَّا، كما مزج موسيقى الغجر الرومانيّة التي كانت تُعزف في قصر القيصر بالموسيقى العربيّة مع عبد الكريم الشعّار ـــــ مشروع لم يبصر النور بعد «لأسباب تقنيّة». كما أنتج ألفتريادس موسيقى فلامنكو شرقيّة «لكن هذا النوع من الفلامنكو لا يُعدّ غريباً لأنّه كان موجوداً في الأندلس، والبعض يعتقد أنّ كلمة Ole، ليست إلّا كلمة الله العربيّة».
وإن كانت موسيقى الغجر قد تفرَّعت إلى أكثر من نوع، بقيت شجون أغانيهم متشابهة. فهم لا يشعرون بالانتماء إلى مكان، حياتهم صعبة، لم يدخلها العلم أو الطبّ، فيها الكثير من الفوضى... هكذا تروي أغانيهم مشاهد من حياتهم أكثر ممّا تصف مشاعر معيّنة، هم المتطرّفون في تعبيرهم عن مشاعرهم.
بعدما عاش ألفتريادس فترة مع الغجر، اكتشف أنّهم ليسوا أفضل من يجيب عن الأسئلة التي كان يحملها في رأسه، بما أنّهم مسيّرون أكثر ممّا هم مخيّرون، فابتكر بعدها مشروعه النوويريستاني. هو يمزج اليوم الموسيقى النوويريستانيّة بـ «فلامنكو غالفيز». من أين تنبع موسيقى «نوويرستان» إن كانت غير متّصلة بحضارة؟ يجيب ألفتريادس بأنّ «مسألة الوجود نسبيّة، وما ليس موجوداً اليوم، يمكن أن نوجده غداً. نوويرستان موجودة الآن بفضل المبادئ والفلسفة التي وضعناها لها. أمّا أوركسترا «نوويرستان» المؤلّفة من موسيقيّين من مختلف الجنسيّات، فلا قوانين تحدّها... المفروض أن يعزف كلّ واحد موسيقى بلده، وأنا أضبط عمليّة المزج».