في «رسائل أوديسيوس»، تتداخل الأسطورة وتتماهى مع ملامح الشاعر وسيرته، إلى درجة أننا لا نعرف مَن هو قناع الآخر: نوري الجراح أم أوديسيوس؟
نجوان درويش
مَنْ جاء بيتي ساعَةَ لمْ أكنْ ورأى الدمَ في السَّتائر/ مَنْ لمَسَ الباب، مَنْ طافَ في الغُرَفِ/ من نَظَرَ سريري؟/ أنا لستُ أوديسيوس حتى يكون لي معجبون/ قرأوا قصتي، وجاؤوا يعزّونني/ لا/ ولستُ أوديسيوس/ لتكون لي أختٌ/ تُطرِّزُ/ على الماكينة/ شالاً، أو قميصاً/ لشقيقها الغائب». لعل أبرز ما يثير ـــــ من الناحية الفنية ـــــ في «رسائل أوديسيوس» (المختارات الشعرية لنوري الجرّاح ـــــ سلسلة «آفاق عربية»، القاهرة) هو الكيفية التي تحضر من خلالها شخصيات الملحمة الإغريقية، ولا نقول استعمال هذه الشخصيات. فالاستعمال يفترض استدخالاً لمادة غريبة، فيما الجرّاح يتعامل مع هذا الموروث الإغريقي باعتباره موروثاً سورياً، أو موروثاً مشتركاً مع سوريا (بلاد الشام).
بإعادة قراءة القصيدة التي تحمل المختارات عنوانها، يمكننا القول إنّها بمستوى أعلى النماذج التي استعادت الأساطير الإغريقية، كقصائد اليونانيَّيْن كفافي وريتسوس. ولكون «إغريقيات» الجرّاح مرتبطة بالحياة العربية المعاصرة ومتقدمة زمنياً على الأخيرين، فلا عجب في أن يفضّلها قارئ عربي على «إغريقيات» شاعرين فذّين من أبناء الثقافة اليونانية. الجراح هنا لا يستعير أو يستعمل بقدر ما يتمثّل ويكوّن و«يقول» من داخل هذا الموروث الإنساني الذي هو جزء من تاريخ المخيلة الإنسانية، وجزء من موروث منطقتنا العربية الوارثة لجملة حضارات كبيرة عرفتها البشرية..
تتداخل الأسطورة هنا وتتماهى مع ملامح الشاعر وسيرته، سيرة شقائه فرداً وجماعةً، إلى درجة أننا لا نعرف مَن هو قناع الآخر نوري الجراح أم أوديسيوس. وإن كنا ندرك ـــــ وهذا الأهم ـــــ أنّ أوديسيوس هنا هو الإنسان العربي الذي ينظر في مرآة المغامرة الإنسانية، وتختصر تجربته شقاء منطقة بأسرها وتوقها. لا نقع في شعر الجراح على إحالات سياسية مباشرة لكننا لا نستطيع قراءته بعيداً عن صورة دمشق «يا لها من مدينةٍ في كَنَفِ جبل/ لما يطوفُ المهرِّجُ/ بالأمثولةِ».. هذا شعر لا يمكن فهمه بشكل عميق من دون استشعار عذابات النهضة العربية التي تشبه «اللبؤة الجريح» كما تظهرها جدارية عراقية آشورية، والتي ـــــ مثل كل العذابات الكبيرة والنبيلة ـــــ تظل صامتة ولا نرى سوى صورتها. «لستُ أوديسيوس/ لامرأة ماتت ودُفِنَتْ تحت السلَّم/ لستُ أوديسيوس/ لأمٍّ./ لستُ أوديسيوس/لابنٍ./ لستُ أوديسيوس/ لأختٍ. أنا لستُ أوديسيوس/ وهؤلاء الذين صُرِعوا وتَخَبَّطوا في فِناء منزلي/ صَرَعَهُمُ القَدَرُ».
قد تكون هذه المختارات (من بعض مجموعاته الصادرة بين 1994ــــ2004) ملخّصاً ومدخلاً مناسباً لتجربة نوري الشعرية الغنية والمركّبة. هي كغيرها من تجارب الربع الأخير من القرن الماضي الشعرية، لم تطلها عملية قراءة لائقة. عملية القراءة وشقيقها النقد يبدو كأنهما لم يتجاوزا سبعينات القرن الماضي في أحسن تقدير. وممّا يثير العجب كيف تتطور الشعرية العربية بلا مواكبة نقدية أو حتى عملية قراءة يمكن تلمّس أثرها.
في مقدمته لـ«رسائل أوديسيوس» يكتب الناقد خلدون الشمعة أنها «تصدر عن شعرية وجود وكينونة، شعرية خصام مع الذات لا شعرية خصام مع الآخر»، محيلاً على مقولة الشاعر ييتس «مِنْ خصامنا مع الآخرين نصنع البلاغة، ومن خصامنا مع أنفسنا نصنع الشعر». «مَنْ جاءَ بيتي في عَرَبَةٍ/ مَنْ جاءَ خِفيةً/ وعندما لمْ أكُنْ/ مَنْ فَتَحَ الخزائنَ وقَرأَ رسائلي التي أرسلتُها لنفسي/ أنا/ أوديسيوس/ المَيْتُ في باخرة».